فقال يعقوب وهو يحك قفاه: «لا أشير عليك بشيء؛ فإنك أدرى بالصواب وأنا معك إلى الممات، ولكنني أستغرب ذلك الرأي من أوباس وهو أعلم الناس بما أصابك وأصاب سائر القوط من هذا الطاغية، ولولا اعتقادي بقوة عقل أوباس وصحة بدنه لقلت إنه يتكلم عن خرف. على أني لا أحسبه إلا كتب ذلك الكتاب ثم ندم عليه، وعلى كل حال فالرأي لك.»
فقال ألفونس: «كيف تقول إنه ندم وأنا لا أجتمع به إلا حرضني على الثبات، ولا يزال صوت خطابه يرن في آذاننا وهو يحرضنا على الاتحاد والصبر في ساحة الحرب، وأوباس - يا يعقوب - لا يقول قوله جزافا، ولولا اعتقاده بحسن عاقبة هذا الاتحاد لم يدعني إليه.»
فقال يعقوب: «عمك الميتروبوليت - يا مولاي - حكيم وفيلسوف، ولعلك إذا سمعت مني ذلك نقمت علي وشككت في أمري، ولكن دع ذلك عنك واعمل بمشورة الكونت يوليان فإنه والد فلورندا، وهو إنما ركب هذا المركب الخشن في سبيل الدفاع عن ...»
فمد ألفونس يده وسد بها فم يعقوب بلطف وهو يقول: «يكفي يا يعقوب فإني عامل برأي عمي لأنه لا يجهل شيئا نحن نعلمه، وهو أدرى مني ومنك بالأسباب التي حملت يوليان على ذلك. وقد آن لي أن أخرج لقيادة الجند.» وعاد إلى لبس الدرع، فيئس يعقوب منه، وظل واقفا وهو يحك أنفه بطرف سبابته، فسمع نحنحة سليمان خارج الخيمة، فاستبشر وخرج، فدفع إليه سليمان كتابا قال له: «إنه من فلورندا.» فدخل به على ألفونس، فتناوله وفضه، وحين وقع نظره على الخط علم أنه من فلورندا، فاختلج قلبه وتزايدت ضرباته، وظهرت البغتة في وجهه، وارتعشت أنامله، حتى ظهر ذلك في اهتزاز الكتاب، ثم امتد الارتعاش إلى كل أطرافه، وهو يتجلد ويتظاهر بعدم التأثر، ويعقوب يرى كل ذلك ويتجاهل. أما ألفونس فقرأ الكتاب فإذا فيه:
أكتب إليك على قطعة من ردائي بمداد من دمي، وهو الرداء الذي قابلتك به في حديقة القصر، وقد تمزق تلك الليلة بين يدي رودريك دفاعا عن جوهرة هي لألفونس أكثر مما هي لي، وقد أرسلت إليك مع حامل هذا بعض ما تناثر من شعري في أثناء ذلك الدفاع، ناهيك بما علق منه بتلك الشجرة اليابسة تجاه نافذة قصري وأنا هاربة من الوحش الكاسر. هذا هو رودريك الذي أراك اليوم تحارب بسيفه وتدافع عن عرشه لتحفظ له ملكا اختلسه من أبيك، وتستبقي له يدا سيمدها ثانية إلى خطيبتك، إلى فتاة تزعم أنك تحبها وقد فاتك أنك ذاهب بها وبأبيها وسائر أهلك وأهلها إلى الدمار. وكأني بك لم تعلم بما ارتكبه رودريك أو عزم على ارتكابه، فاعلم أنه أراد ابتذال عفتي وهتك عرضي، فهددني وخوفني وأملني ومناني وأراني السعادة في طاعته، والشقاء في عصيانه، ولم يصغ إلى بكائي، ولم يرق لتضرعي، فعصيته وآثرت الشقاء حبا لألفونس ومحافظة على وده، ولعل طول البعد أنساك عهودك على ضفة نهر التاج يوم مسست شعر رأسك بأناملك، وقلت: إن بقاء هذا الشعر حرام عليك إن لم تف بقولك، أهذا هو الوفاء؟ كأنك تعهدت بقتلي وقتل والدي وسائر أهلك وأهلي، وكأنك أقسمت أن تؤيد سلطان هذا الباغي ... فإذا علمت ما ذكرته لك وتذكرت ماضي عهودك ورأيت البقاء عليها فاترك رودريك وجنده وتعال إلي فوق هذه الرابية في مستودع الخمر بين المعسكرين أو إلى والدي في معسكر العرب. وأما إذا كنت لا تزال على نصرة ذلك الظالم وكان لحب فلورندا بقية في قلبك فلا تتركني أموت قبل أن أراك وأشكو إليك جفاك وأخاطبك وأعاتبك، والعين على العين، وأتزود منك بنظرة أنسى بها ذلك الشقاء. وإذا ضننت حتى بهذا فأستودعك الله إلى أن نلتقي بين يدي الديان العظيم ومعنا رودريك يشهد على نفسه وعليك، والسلام.
فلورندا
ما قولك في ألفونس بعد تلاوة ذلك الكتاب ومشاهدة شعر فلورندا وقد علمت حبه لها واستسلامه لهواها؟ إنه ما إن فرغ من تلاوته حتى أحس كأنه استيقظ من نوم، أو هي عواطفه تنبهت من غفلتها أو انحلت من قيود الاستهواء، فاستولى عليه سلطان الغرام، فأنساه أوباس وكتابه وحكمته وآدابه. والحب سلطان نافذ الكلمة ماضي القضاء، غالب على كل سلطان، يستذل الملوك ويحطم سيوف القواد ويحير عقول الفلاسفة والحكماء.
ظل ألفونس بضع دقائق مطرقا كأنه غائب الرشد، ولم يبق في مخيلته إلا صورة فلورندا بثوبها الأرجواني الذي رآها فيه المرة الأخيرة، وبشعرها الذهبي داخل تلك الشبكة وفي يده من كليهما بعضه. وتذكر ما دار بينهما من التشاكي والعتاب، وما تعهد لها به من أسباب السعادة بإخراج الملك من رودريك. وتعاظم خجله واضطرابه حتى توهم أنه يسمع صوت توبيخها وتعنيفها ويرى دموعها. وكان يعقوب واقفا بين يديه، فلما رأى اضطرابه وتأثره خرج من الخيمة تأدبا؛ ليخلو ألفونس لنفسه، فلما خرج لقيه سليمان، وكان واقفا هناك على أحر من الجمر، فسأله بالإشارة فأجابه يعقوب بإطباق عينيه أن الحيلة أوشكت أن تنجح، وفيما هما واقفان رأيا فارسا مسرعا نحوهما وفي يده شيء، فتقدم يعقوب نحوه للسؤال عن غرضه، فإذا هو من أتباع أوباس، فلما تلاقيا تعارفا، فسأله يعقوب عن غرضه، فقال إنه قادم بكتاب من أوباس إلى ألفونس، فاستعاذ يعقوب بالله من ذلك الكتاب مخافة أن يكون فيه ما يفسد تلك الحيلة، فعمد إلى الاحتيال فقال: «إن مولاي الأمير يغير ثيابه ولا يستطيع أحد الدخول عليه.»
قال: «إني مكلف بتسليمه هذا الكتاب حالا.»
قال: «هاته وأنا أدخله عليه بعد قليل.»
Unknown page