قال: «أظنه معهم.»
فلما سمعت ذلك تصورت قرب الخطر منها، وسليمان يستشف عواطفها وملامحها، فلما رأى اضطرابها قال لها: «لا تخافي يا مولاتي فإنك في أمان، تعالي نختبئ في مكان ريثما يمر هذا الجند.»
قال ذلك ومشى، فتبعه الجميع حتى دنوا في مكان خرب مهجور فوق تل بعيد عن الطريق، فدخلوه فقالت فلورندا: «أرى أن أتنكر بثوب رجل.» فأعطوها ثوبا من أثوابهم، وأعطوا مثله للخالة العجوز؛ حتى لا يشك من يراهم عن بعد أنهم رجال، ثم اختبئوا في ذلك المكان، وفلورندا شديدة الميل إلى مشاهدة تلك الحملة، فاهتدت إلى شق نظرت منه إلى جهة الغبار، فإذا هي بالبنود قد ظهرت، والفرسان بينها عليهم الملابس الملونة والدروع. ورأت في وسط الحملة بنودا كثيرة قد تجمعت، تحملها فرسان بملابس مرصعة، وفي وسطهم موكب يتلألأ كالشمس، فعلمت أنه موكب رودريك فأصابها الاضطراب، ولم يقترب الموكب من مكانها حتى اصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها، فرسمت إشارة الصليب، فتشجعت وثبتت قدميها، ثم شغلها ما سمعته من قرع الطبول وخفق البنود وصهيل الخيل وقرقعة العجلات وعليها المئونة والذخيرة، وضوضاء الناس وهم يمرون بين يديها. ثم أقبل الموكب ورودريك فيه على سرير بين دابتين بما يشبه الهودج، وفوق رأسه مظلة من الديباج المزركش مرصعة بالدر والجوهر، في مقدمتها صليب مغروس في أحد أعمدتها، ورودريك جالس وعلى رأسه التاج يتلألأ بالحجارة الكريمة، وقد ارتدى وشاحا مزركشا وردي اللون، وتصدر تصدر الملوك على عروشهم، ويده في لحيته وهو يجيل نظره ذات اليمين وذات الشمال، ينظر إلى جنوده وكثرة ما معه من العدة والرجال. وقد جلس معه في ذلك السرير الأب مرتين وهو يخاطبه ويشير بيده ورودريك ينظر إلى الأعلام المحيطة بموكبه ودلائل الإعجاب بادية على وجهه.
فلا تسل عن حال فلورندا لما وقع نظرها على وجه رودريك، وكان سليمان واقفا بجانبها، فلما مر الموكب التفت، فرأى لونها قد أصبح مثل لون التراب، فأراد أن يشغلها عن الخوف فقال: «ما ظنك في عدد هذا الجند يا مولاتي؟»
قالت: «لا أدري ولكنني أراه كثيرا، هل تظن أن جند العرب أكثر منه؟»
قال: «إن العرب لا يزيد عددهم على خمس هؤلاء، وناهيك بما سينضم إلى جند رودريك من الرجال قبل أن يلتقي بالعرب، ولا سيما جند مولاي الأمير ألفونس فإنه سينضم إليه.»
فقالت: «إذن فالعرب في خطر وضعف؟»
قال: «لو كانوا ضعفاء ما استطاعوا دخول هذه البلاد، فإن القوة ليست في الكثرة وإنما هي في الشجاعة. إن العرب يا مولاتي لا يزيد عددهم في هذه الجزيرة على 12 ألفا، ومع ذلك فلم يقف في سبيلهم أحد.»
فقطعت كلامه قائلة: «ولكنهم لم يلاقوا مثل هذا الجند بعد.»
فقال سليمان: «هذا صحيح، ولكنني رأيت من شجاعتهم واتحادهم وصبرهم ما لا أخشى معه عليهم شيئا، ومع ذلك فإن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» وفي أثناء هذا الحديث مرت بقية الحملة، فمكثوا هناك إلى آخر ذلك اليوم. وخرج سليمان وحده للبحث عن المكان الذي نزل فيه العرب، ثم عاد فأخبر فلورندا بأن العرب قد نزلوا في وادي ليتة قرب مدينة شريش، فقالت له: «وهل عرفت مكان معسكر ألفونس؟»
Unknown page