فلما سمعت فلورندا ذلك اضطرب قلبها لأول وهلة، ثم شكرت الله لدخولها هذا الدير في كنف ذلك الرئيس المحب، وعولت على البقاء هناك حتى يعود أجيلا من عند والدها.
ولكنها أحبت السؤال عن مقر ألفونس فأومأت إلى خالتها أن تسأل عنه فقالت: «وهل عرفت المكان الذي ذهب إليه الأمير ألفونس؟»
قال: «لم أستطع الوقوف عليه صريحا، ولكنني سمعت أن الملك أنفذه مع فرقة من الجند إلى أستجة، ولم أتحقق تماما لأني لم أدقق في البحث عنه.»
فأومأ الرئيس إلى فلورندا أن تكتفي بما تقدم ريثما يتاح له الذهاب إلى طليطلة والبحث عن كل ذلك، فسكتت ثم وقف الرئيس وصلى صلاة وجيزة، فلما فرغ انصرفت فلورندا وهي غارقة في لجج التأمل لما سمعته عن أوباس وسجنه وعن اندفاع رودريك في البحث عنها، فلم تر لها مندوحة عن البقاء مستترة في ذلك الدير لترى ما يأتي به القدر، على أنها عللت نفسها بالاطلاع على تفاصيل أخرى بعد رجوع الرئيس من طليطلة.
ولكن الطبيعة أبت إلا معاكستها فتغير الطقس وتوالت الأمطار وتكاثرت الثلوج حتى سدت طرق الجبال، وانقطعت السابلة فمنعت الرئيس من السفر أياما عديدة، وهو على مثل الجمر، فكيف بفلورندا والجمر يتقد في قلبها وفي رأسها، وخصوصا بعد أن مضى شهر وبعض الشهر ولم يرجع أجيلا من مهمته إلى والدها فزاد اضطرابها وتضاعف قلقها، وانقبضت نفسها حتى تصورت أن الدنيا قد سدت في وجهها، فقد فقدت خطيبها وابتعدت عن والدها، وسجن نصيرها وأصبحت طريدة شريدة ثم سيقت إلى ذلك الدير، فأقامت فيه قيام المجرمين في السجون. وما كادت تفرح بعطف ذلك الرئيس حتى حالت الطبيعة دون خروجه، وأقامت بينه وبين طليطلة سدودا من الثلج. ولكنها كانت إذا تراكمت عليها الهموم وغشت بصيرتها السويداء لجأت إلى الصلاة، فإذا صلت انفرجت كربتها وعادت إليها آمالها، فإذا فرغت من الصلاة وكان الطقس صحوا، صعدت إلى السطح مع خالتها تتطلع إلى الطرق البعيدة لعلها ترى شبحا قادما تتوسم في مقدمه فرجا، ولكنها لم تكن ترى سوى جبال من الثلج تنتهي لدى باب الدير ، ولولا انشغال الرهبان بجرفه في كل صباح لغاب كله فيه.
وكان الرئيس يتردد إليها فيطمئنها ويعدها خيرا ويريها أبواب الفرج، ومرجع كلامه إلى ثقته الكبرى بتعقل أوباس وحسن درايته وعظم سطوته على العقول والقلوب. ولم تكن هي أقل منه إعجابا به لأنها شبت وهي لا تسمع حديثا عن أوباس إلا مشفوعا بعبارات الإطراء والتبجيل حتى خيل لها أنه قادر على كل شيء، ولم تصدق أن أحدا يستطيع أن يصيبه بأذى أو أن يتغلب على رأيه. وكان سرجيوس يفكر في طريقة لإخراج أوباس من السجن، فإذا خرج جاء به إلى الدير ليقيم بسلام وسكينة، ولكنه لم يهتد إلى سبيل أمين بعد أن بلغه من تشديد الملك في الاحتفاظ به والسهر على حراسته.
الثلوج والرسول
وأفاقت فلورندا في صباح يوم من أواخر فبراير على هبوب العواصف وهطول المطر وأكثره من الثلج أو البرد، واشتدت الأنواء والرعود والبروق نحو ساعتين، ثم انقطع المطر وسكنت الرياح بغتة - وذلك ما يحدث في هذا الشهر في البلاد المعتدلة، فإن الجو يتقلب في اليوم الواحد من أيامه تقلبات شتى بين صحو ومطر ونوء وصفاء - فلما توقفت الأمطار وأطلت فلورندا من باب الغرفة، فإذا بفناء الدير قد غمرته الثلوج حتى باب غرفتها، ومع ذلك فالشمس قد أشرقت على ذلك الثلج، فتكسرت أشعتها عليه وانحل النور في بعض الأخاديد، فبدا الطيف الشمسي بألوان قوس قزح، فوقفت فلورندا وهي تتأمل ذلك المنظر الجميل، ثم ما لبثت أن رأت الرهبان يتقاطرون من كل جانب وفي أيديهم المجارف والمعاول، وأخذوا في جرف الثلج وحمله إلى الخارج، فأعجب فلورندا ذلك المنظر وأحست بانبساط نفس لم تشعر بمثله منذ أشهر. والإنسان إذا أمطرت السماء ثم صحت وصفا جوها يشعر بانبساط وخاصة إذا سبق المطر ضباب متكاثف أو غيوم متلبدة، ولكن البرد يشتد في ساعة الصفاء عما كان عليه في ساعة الكدر؛ ولذلك فإن فلورندا لم تطل الوقوف لدى ذلك الباب، فدخلت والتفت بقبائها المبطن بالفرو وأحكمت الالتفاف به وعادت وإذا بالراهب الشيخ - حارس الباب - مقبل وقد استبدل العكاز بمجرفة يجرف بها الثلج بنشاط الشباب، وكان إلى ذلك لا يزال عاري الساقين والزندين، واكتفى من وسائل الدفء بلف كوفية من الصوف حول صدغيه وأذنيه.
فلما رأته فلورندا على تلك الحال أعجبت بتأثير العادة على الإنسان، ولبثت واقفة تنظر إلى شيخنا الراهب وغيره من الرهبان وهم يشتغلون وشانتيلا يشتغل معهم. فلم تمض برهة حتى نظفت الباحة، وكان بعضهم يجرف الثلج عن السطح أيضا. فلما فرغ الرهبان من العمل خرجت فلورندا وبربارة، وقد أعجبها صفاء الجو وإشراق الشمس، وصعدتا إلى السطح وأطلتا على الجبال على سبيل الفرجة، ولم تقفا على السطح برهة حتى أثر الزمهرير في فلورندا ولم يغن القباء ولا الكساء شيئا. ثم تغير وجه السماء بغتة وتكاثفت الغيوم وأوشكت السماء أن تمطر، فهمت فلورندا بالرجوع فرأت الشيخ الراهب لدى باب حجرته على السطح وهو يشير إليها أن تأتي إليه، فتحولت وتبعتها خالتها حتى أقبلتا على الغرفة، فإذا هناك نار موقدة في إناء يشبه الموقد، فلما دخلت أحست بالدفء وشعرت بلذة غريبة، فقال لها الراهب: «اجلسي يا بنية إلى جانب المدفأة فإن البرد شديد جدا اليوم.» فجلست وخالتها إلى جانبها، وكان جلوسهما إلى جانب النافذة، وجلس الراهب أمام النار وأخذ يقص على ضيفتيه أحاديث شبابه وكهولته على سبيل التسلية، والخالة العجوز تشاركه في تحقيق بعض النقط وإن كانت هي أصغر منه سنا.
وكانت فلورندا في أثناء ذلك تنظر من تلك النافذة إلى ضواحي الدير ولا يقع بصرها على غير الثلوج إلا قليلا، والراهب والخالة مشغولان في الأحاديث، وهما يحسبان أن فلورندا مصغية لما يقولان، ثم وجهت الخالة الكلام إلى فلورندا وتوقعت الجواب، فرأت فلورندا في شغل عنها لأنها تتفرس في شيء وراء النافذة وقد ظهر الاهتمام على وجهها، فالتفتت الخالة فإذا هناك دابة تمشي صاعدة نحو الدير وعليها راكب، فأمعنت النظر فيه كأنها تعرفه، فسمعت فلورندا تقول: «أجيلا، أجيلا.» فلما سمع الراهب قولها نظر إلى القادم، ولم يكن يعرفه فقال: «ومن هذا يا بنية؟»
Unknown page