فقال الرئيس: «ذلك لكم.» ثم خرج وكان الليل قد أسدل نقابه، وأوقد الرهبان نيرانا في بعض جوانب تلك الباحة للدفء والإنارة. وكان شانتيلا قد اختلط بالرهبان وهم يسألونه عن أحواله ولا يسمعون منه جوابا مفيدا. فلما خرج الرئيس من دار الضيافة سكنت الغوغاء وتشاغل الرهبان بإعداد الطعام ، وبعث الرئيس إلى قيم الدير وأمره بأن يعد للضيوف ما يحتاجون إليه من الطعام وسائر لوازم الراحة.
صعد الرئيس إلى غرفته وهو يشعر بالضيق مما سمع عن أوباس؛ لأنه كان يحترمه ويحبه ويغار عليه، شأن كل من يعرف أوباس لما فيه من تعقل ورزانة وإباء، فأخذ يفكر في سبيل إلى إنقاذه، ثم تذكر أنه ليس على يقين من حقيقة حاله، فعول على أن يتولى البحث عن ذلك بنفسه. وكان سرجيوس بعيدا عن هذه الأحداث لأنه لم يذهب منذ زمن إلى طليطلة، ولا في عيد الميلاد لحضور القداس الأعظم وتهنئة الملك لشواغل خاصة اقتضت تخلفه، ولعله لم يكن يتخلف لو لم يكن هو ميالا إلى الابتعاد عن الملك وحاشيته لما في نفسه من النقمة لغيطشة، فقد كان حاضرا في المجمع الذي دبر استبدال رودريك به، ولم يكن هذا الاستبدال من رأيه، ولكنهم غلبوه على أمره بالأكثرية، ثم أصبح يخشى التظاهر بما يعتقده لئلا يناله غضب الملك، ولم يكن يحتمل مشاهدة ما يغاير اعتقاده، فجعل سفره إلى طليطلة نادرا. فلما أقبل عيد الميلاد الأخير تعلل بما يمنعه عن الذهاب فلم ير شيئا مما حدث لأوباس، ولو كان هناك لشهد محاكمته وسمع حجته، وإن كان حضوره لا ينفع أوباس شيئا لأنه لا يستطيع التغلب على حزب الملك وهم الأغلبية.
فخطر لسرجيوس أن يذهب إلى طليطلة بنفسه فيعتذر للملك عن تخلفه في العيد، ولكنه خشي أن يتهمه أو يشك في سبب مجيئه، وأول من يثير شكوكه هو الأب مرتين؛ لأنه لا يغفل عن مثل ذلك، فرأى تأجيل الزيارة إلى يوم رأس السنة فيذهب لتهنئة الملك بالعيدين، ولا يكون ثمة ما يدعو الملك إلى الشك في سبب مجيئه، ولكنه لم يكن ليصبر عن استطلاع حال أوباس طول هذه المدة، فعول على إرسال راهب يستطلع ذلك من حاشية الملك من غير أن يشاهد أوباس أو يسمع كلامه. قضى سرجيوس معظم الليل يضطرب في مثل هذه الهواجس.
غرفة الرئيس
فلما أصبح بعث إلى فلورندا، وكانت قد باتت تلك الليلة في راحة على أثر ما قاسته من تعب في البدن واضطراب في العواطف، وبخاصة بعد ما آنست من الرئيس سرجيوس ما آنسته من مشاركة لشعورها وعزم على مساعدتها. وأفاقت في الصباح على صوت الناقوس، فنهضت وأخذت تهتم بالذهاب إلى الكنيسة، وبينما هي في ذلك سمعت وقع أقدام بجانب غرفتها تخالف ما تعلمه من وقع خطوات شانتيلا، ثم سمعت قرعا على الباب، فنهضت خالتها وفتحته، فرأت راهبا لم تعرفه فسألته عن غرضه فقال: «إن حضرة الرئيس يدعوكما إليه.»
فمضتا والراهب يسير أمامهما وفلورندا تقول في نفسها: «لم تنقض أيام شقائي بعد، يبدو أن الرئيس قد غير عزمه على مساعدتي.»
وتقدمهما الراهب في تلك الباحة حتى دار من وراء الكنيسة إلى درجات سلم صعدوا عليها إلى حجرة طرق الراهب بابها ودخل قبل أن يؤذن له بالدخول، ثم عاد ودعا فلورندا وخالتها فدخلتا، فإذا هما في غرفة بسيطة الأثاث حسنة الترتيب، على جدرانها أنواع من صور القديسين مختلفة الأشكال والأحجام، وفيها صور كبيرة الحجم من صنع مصوري رومية تمثل أهم حوادث الإنجيل، مثل ولادة المسيح في بيت لحم، وعماده في النهر، وصلبه وصعوده إلى السماء. فلما أجالت فلورندا بصرها في الغرفة انشرح صدرها لتلك المناظر، وتأثرت لها تأثرا عظيما لما فطرت عليه من التقوى، وقد زادتها المصائب تمسكا بحبل الدين فتخشعت عند دخولها تلك الغرفة مثل تخشعها عند دخول الكنيسة، فخف الرئيس لاستقبالها ودعاها للجلوس، فلم تنس قبل الجلوس أن تقبل أيقونة للمسيح المصلوب كانت قريبة منها، ثم جلست فابتدرها الرئيس قائلا: «لم يبق بيننا حجاب وقد اطلع كل منا على أسرار الآخر، فلنبسط الكلام صريحا. وعدتك يا فلورندا أن أستطلع حال أوباس، وكنت على عزم أن أتولى ذلك بنفسي، ثم خطر لي أن ذهابي إلى طليطلة اليوم بعد أن تخلفت عن حفلة العيد يدعو إلى الشك، وربما أدى إلى عرقلة مساعينا، فرأيت أن أؤجل ذهابي إلى رأس السنة وهو قريب، فما قولك؟»
فخفق قلب فلورندا، وعدت ذلك التأجيل فاتحة للعراقيل ، وبدا أثر ذلك في وجهها، ولم يخف اضطرابها على الرئيس، فاستأنف الكلام قائلا: «ولكنني سأرسل أحد الرهبان اليوم ليتفقد الحالة من حاشية رودريك، فإذا اطلعنا عليها ساعدنا ذلك على تدبير الوسائل قبل ذهابي إلى طليطلة.»
فاطمأن بال فلورندا واكتفت بانتداب الراهب وأرادت أن تبين له ما تود الاطلاع عليه من أمر ألفونس فضلا عن أوباس، ثم هي تريد أن تعرف رأي رودريك في فرارها، وهل يتفانى في البحث عنها، ولكن الحياء منعها من الكلام في هذا الشأن صراحة فقالت: «إذا كان الراهب الذي ستنتدبه ذكيا وجاءنا بالخبر اليقين كان ذلك خيرا من ذهاب حضرتك قبل الاطلاع على شيء.»
فقال الرئيس: «فلنبحث فيما يطلب الاطلاع عليه.»
Unknown page