شغل الناس بنجلاء، وتسابق فتيان الأسر الكريمة إليها يستجدون نظرة رضا، ويتمنى كل شاب منهم لو أسعده الحظ بأن يكون لها بعلا، باذلا في سبيل ذلك كل ما في يديه من مجد وشهرة ومال، ولكن هذه الزهرة الناضرة النقية لم تقابل هذه النحل المزدحمة حول رحيقها
2
المختوم إلا بابتسامة الزهر لأشعة الصباح. فقد علمها أدبها ونبل أخلاقها أن تعطف على الناس جميعا في وداعة وصيانة، وأن تسطع عليهم جميعا كما تسطع الشمس، لا يختص بشعاعها قصر أمير، ولا يحرم ضياءها كوخ بائس فقير. فما يكاد يظن شاب أنه فاز منها بلمحة رضا حتى يدعمه اليقين بأن ما كان يظنه قبولا لخطبته لم يكن إلا لطفا في الرد وأدبا في الإباء.
وكان أشد الفتيان حرصا على خطبتها، وتشبثا بالرغبة في تزوجها، قرعويه غلام سيف الدولة وقائد إحدى كتائبه.
كان شابا جميل الطلعة، مديد الطول، تياها شديد الغرور بنفسه والزهو بها، يجمع إلى ذكائه طبيعة النمر في الفتك، وغريزة الثعلب في الدهاء والحيلة. عرض هذا القائد على نجلاء كل شيء ليكون لها زوجا فلم يظفر بشيء، وكثيرا ما مناها الأماني، وهمس في أذنها بما ينتظرها من جاه وثروة وبعد مكانة، ولكن فتاتنا كانت تقابل كل هذا بابتسامة مهذبة لطيفة تمتزج فيها الدهشة بالحياء، وتقول: ما أجمل هذا! حقا إنه بديع، ثم تنطلق إلى حديث آخر في لباقة وأدب حتى إذا طال الكلام انفلتت منه كما ينفلت الطائر قبل أن تعلق به حبالة الصائد.
وهكذا مضت الأيام وقرعويه يزيد إلحاحا، وهي تزيد عنه بعدا وانصرافا.
وكانت فاطمة أخت نجلاء تسكن بمنبج، حيث يقيم زوجها الحسين الجوهري أكبر تجار الجواهر بالمدينة. فقدمت نجلاء من حلب لزيارة أختها مع خادمتها سلمى العراقية، وهي امرأة في الستين من عمرها لئيمة الطبع، لها دهاء وفضلة من ذكاء، صرفتهما في الحيل والخبث واقتناص المنافع. ولم تقصد نجلاء من هذه الزيارة إلا أن تروح عن نفسها قليلا من صخب حلب وازدحامها، وقد راقها ما رأت في منبج من حسن منظر، وطيب هواء، فأطالت مدة إقامتها.
وفي ذلك الحين كانت شجاعة أبي فراس وصباحة وجهه، وكرم خلاله قد سارت مسير المثل في المدينة، ووصلت أخبارها إلى كل بيت، وتطلع كل عظيم إلى أن ينال شرف مصاهرته. أما الأمهات فقد رفعن رءوسهن، ومددن عيونهن، وأرهفن آذانهن لكل ما يصل إليهن من أخبار بطل منبج وفارسها الباسل. وأعدت كل أم ابنتها لهذا الشرف، وأخذت تمهد لها إليه السبيل. والأم حينما تلد بنتا لا تفكر في شيء إلا في زواجها، وحينما تهز مهدها - وهي تتفرس في وجهها، وتدعي أن كل هفوة للجمال فيه إنما هي حسن من نوع غريب لا عهد للناس به - لا يخطر ببالها إلا إحصاء أبناء المدينة ممن هم في طبقتها واحدا واحدا، وتخير أكرمهم محتدا، وأعظمهم ثروة وأملحهم وجها، حتى إذا استقر بها الاختيار أخذت في العمل، والاستنجاد بخير الوسائل، فتوددت إلى أمه، ودفعت زوجها من حيث لا يدري إلى مجاملة أبيه ومصادقته، فإذا مات الغلام انصرفت إلى غلام آخر يليه في المرتبة، وأعادت القصة بذاتها، لا تخرم
3
منها حرفا.
Unknown page