هكذا كانت حال الآباء والأمهات بمدينة منبج حين شب أبو فراس عن الطوق، وحين أصبح شابا جميلا في نحو الثامنة عشرة، تتيه به العروبة، وتشتاق إليه ميادين القتال. فلم يكن عجبا بعد هذا أن تكثر زيارة الأمهات لقصر سخينة، وأن يرسلن عليها سيلا جارفا من الملق كاد يجترفها. فما فعلت شيئا إلا كان حسنا جميلا، ولا قالت قولا إلا وهو حكمة سليمان، وفصاحة سحبان، وكلما مر ذكر ابنها في غضون الحديث عرضا نثرن عليه الثناء، وغمرنه بصنوف المديح والإطراء. وسخينة تسمع وتفهم؛ لأنها أم تعرف ما تتمناه الأمهات لبناتهن من الخير والسعادة.
زارها في أحد الأيام بعض كرائم السيدات، وكان بينهن نائلة زوج والي المدينة من قبل سيف الدولة، ومعها ابنتها عزة، فلما استقر بهن المقام أخذت نائلة تملأ البهو حديثا في جمال القصر، وحسن تشريفه، ثم تتبع ذلك بالإشادة بمجد بني حمدان، ثم تنتقل إلى ما تتحلى به سخينة من صفات الشرف والكرامة وأصالة الرأي، ثم تثب بعد كل هذا إلى أن الولد صورة من الأم، وأن كل عرق ينتمي إلى أصله، وأن سيرة أبي فراس أصبحت مثلا عاليا للفتيان. ثم تتابع الحديث وتقول: إن ابني لا يمل الكلام في بطولة أبي فراس حتى لقد قلت له بالأمس: خير لك يا بني أن تؤلف كتابا في أخبار صديقك. فصاح ضاحكا وقال: وبم أسمي الكتاب يا أمي؟ قلت: «سمه روض الآس في أخبار أبي فراس.» فابتسمت سخينة وقالت: خير له أن يسميه: «ظبية الكناس
4
في بطولة أبي فراس.» فضحك السيدات جميعهن، وما كدن يخضن في حديث آخر حتى دخلت هيلانة تعلن قدوم السيدة فاطمة الخالدية وأختها نجلاء، فقمن لتحيتها، وقالت فاطمة في دعابة: لقد هززتن أركان البهو قهقهة ففيم كان ضحككن؟
فحاولت نائلة بعد أن بهرها جمال نجلاء أن تغضي عن السؤال، وأن تصرف الحديث إلى غير وجهه، ولكن سخينة أسرعت فقالت: كنا نختار اسم كتاب يؤلف في سيرة ابني فماذا تقترحين؟ - أقترح أن يسمى «تعطير الأنفاس بسيرة أبي فراس»؛ فظهر الغيظ على وجه نائلة وقالت: كيف حال ابنك الصغير يا فاطمة؟ لقد سمعت أنه كان مريضا. - إنه الآن بخير، مسح الله عنا وعنك السوء.
ثم تجاذبن أطراف القول في فنون شتى، وسخينة لا ترفع عينيها من وجه نجلاء، فقد أعجبها جمالها وأدبها وحسن حديثها. حتى إذا مر وقت غير قليل، ودع الزائرات سخينة وانصرفن.
وحينما انفردت نجلاء بأختها في الطريق قالت: لقد سمعت كثيرا عن أبي فراس، وسمعت كثيرا من شعره الذي يتناقله الناس، وهو يعد في الطبقة الأولى قوة وروعة وبعد خيال. - إنه شاب لم تر له منبج مثلا في أدبه وسجاحة خلقه وبطولته. - لقد أكثر الناس من المبالغة في وصف شجاعته حتى أحببت أن أراه. - لا تعقد في منبج يا نجلاء مجالس للشعر والأدب كما هو الحال في حلب ، ولكنك تستطيعين أن تريه كل أصيل ممتطيا جواده مع فريق من خلانه في بعض مروج المدينة. - يكفي أن أراه في شعره كما أرى كل شاعر، فإن الشعر صورة صادقة لصاحبه، ومرآة صافية لخوالج نفسه. - ليس دائما يا نجلاء، فإن لأبي نواس شعرا في الزهد، وللحطيئة شعرا في الحث على مكارم الأخلاق.
كان أبو فراس حقيقا بكل هذه الضجة، فقد زادته الرجولة وسامة وقسامة، فكان مشرق الوجه، نافذ نظرات العيون، متين الجسم، قوي العضل، تتأجج فيه نيران الشباب، وتفور في نفسه نزعات عاتية من الطموح إلى المجد والوثوب إلى مراتب العظمة. وكان صورة صادقة للبطولة في القرن الرابع الهجري، شديد الثقة بنفسه، قليل الاكتراث بالنوازل والخطوب، يعيش عيشة الأمراء المترفين في ثروة وجاه ورفاغة
5
من العيش، ويتسلى بقرض الشعر وركوب الخيل والمصارعة والصيد. والتف حوله كثير من أبناء القواد وكبار الأسر، فكانوا يقضون أكثر وقتهم في ترف ولهو وتناشد للأشعار، بين مروج منبج الخضر، وأرباضها
Unknown page