تقولون: إن الدولة سوف تجعل هذا الاختيار بواسطة اثنين أو ثلاثة من المسئولين ذوي حساسية فنية عالية. وأقول إنكم أولا قد توجب عليكم أن تأتوا بمسئوليكم، ولا تنسوا أن هؤلاء أيضا في عيون زملاء عملهم سيعدون أناسا قد ظفروا بشيء مريح. إن الاعتبارات التي تحكم اختيار الفنانين المأجورين للدولة ستحكم أيضا اختيار خبرائها المأجورين؛ فبأية علامة سوف يميز الجمهور الشخص ذا الحساسية الفنية، مفترضين دائما أنه الشخص ذو الحساسية التي يريدها الجمهور؟ جون جونز، سمسار الأدوات المستعملة، يرى نفسه حكما جيدا في الفن يضاهي مستر فراي
Fry ، ويبدو أن مستر أسكويث يرى القائمين على الجاليري القومي أفضل من الاثنين، ولنفترض أنكم بمعجزة معينة قد وضعتم أيديكم على رجل ذي حساسية إستطيقية وجعلتموه مسئولكم، فلا يزال على هذا الرجل أن يبرر صفقاته أمام برلمان منتخب انتخابا شعبيا. إن الأمور بالغة السوء في الوقت الراهن، فلن يطيق الشعب نصبا عاما يكون عملا فنيا بحق، ولا خادمو الشعب المطيعون يودون أن يفرضوا عليه مثل هذا الشيء، ولكن عندما يستحيل على أي شخص أن يعيش كفنان دون أن يصبح خادما عاما، وعندما تكون جميع الأعمال الفنية أنصابا عامة، فهل تتوقعون جديا أن يكون لديكم أي فن على الإطلاق؟ عندما يصبح تعيين الفنانين جزءا من رعاية الحزب، فهل يشك أحدكم في أن عشرين مؤهلا سوف تنفع الطالب أكثر من أن يكون فنانا؟ تخيلوا مستر لويد جورج يعين مستر روجر فراي بوظيفة المنتخب الحكومي لفناني الدولة المأجورين! تخيلوا - ولست هنا أطلب منكم طلبا ثقيلا على قواكم - تخيلوا مستر فراي يعين طالبا مغمورا وصادما وذا موهبة غير تقليدية، وتخيلوا مستر لويد جورج ينزل إلى ليمهاوس ليبرر هذا التعيين أمام آلاف من المصوتين، معظمهم لديهم ابن أو أخ أو ابن عم أو صديق أو كلب صغير، يشعرون أنه بالتأكيد أفضل تأهلا للوظيفة من ذلكم الطالب بكثير.
إذا كان المجتمع الشيوعي العظيم عاقدا العزم على إنتاج الفن - والمجتمع الذي لا ينتج الفن الحي مجتمع ملعون - فهناك شيء واحد، وواحد فقط، يستطيع أن يفعله، اضمن لكل مواطن، سواء أكان يعمل أم كان متبطلا، مجرد حد أدنى من العيش، ولنقل ستة بنسات في اليوم وفراش في منيم عام، اجعل الفنان شحاذا يعيش على الإحسان العام، وامنح العاملين العمليين المجتهدين تلك الأشياء التي يحبونها؛ الرواتب الكبيرة، ساعات عمل قصيرة، المكانة الاجتماعية، المباهج المكلفة. وأعط الفنان كفافه وأدوات عمله؛ لا تطالبه بشيء، واجعل حياته من الناحية المادية بائسة بحيث لا تجذب أحدا، بذلك لن يلجأ أحد إلى الفن عدا أولئك الذين يسكنهم الروح الحارس المقدس حقا لا ريب فيه، واجعل للجميع خيارا بين حياة الوظيفة المرموقة السلسة العالية الأجر وحياة المتشرد المزرية. ليس لدينا شك يذكر حول اختيار الأغلبية، وليس لدينا شك على الإطلاق حول اختيار الفنان الحقيقي. إن الشبه كبير جدا بين الفن والدين، وفي الشرق، حيث يفهمون هذه الأشياء، كان هناك دائما انطباع بأن الدين يجب أن يكون شأن هواية. إن دعاة الهند شحاذون، فليكن فنانو العالم جميعا شحاذين أيضا. الفن والدين ليسا حرفتين، ليسا مهنتين يمكن أن يؤجر عليهما الناس. إن الفنان والقديس يفعلان ما يجب عليهما أن يفعلا، لا كسبا للعيش، بل امتثالا لضرورة سرية. إنهما لا ينتجان ليعيشا، بل يعيشان لينتجا، ولا مكان لهما في نظام اجتماعي يقوم على نظرية أن ما يصبو إليه الإنسان هو حياة ممتدة ممتعة. ليس بإمكانك أن تسلكهما في الآلة، بل يجب عليك أن تجعلهما غريبين عنها، يجب أن تجعلهما منبوذين؛ ذلك أنهما ليسا جزءا من المجتمع، بل هما ملح الأرض.
وحين أقول إن أغلب البشر لن يكونوا قادرين أبدا على إسداء أحكام إستطيقية مرهفة، فما أقول غير الحقيقة الواضحة؛ فالحساسية الوثيقة في الفن البصري هي في ندرة الأذن الموسيقية الجيدة على أقل تقدير، وما من أحد يتصور أن جميع الناس قادرون على تقييم الموسيقى أو أن الأذن الكاملة يمكن أن تكتسب بالدراسة. وحدهم الحمقى من يتصورون أن القدرة على التمييز الدقيق في الفنون الأخرى ليست ملكة خاصة، ورغم ذلك فليس هناك ما يمنع أن ترهف الأغلبية العظمى من حساسيتها أكثر مما هي عليه بكثير؛ فالأذن يمكن أن تدرب إلى مدى، أما للوصول إلى إدراك عال للفن، وكذا الوصول إلى إبداع سخي؛ فالأمر يحتاج إلى انطلاق أبعد. إن تسعة وتسعين من كل مائة زائر لمعارض الصور يجب أن يعتقوا من هذا الجو المتحفي الذي يحجب الأعمال الفنية ويخنق المشاهدين. هؤلاء التسعة والتسعون ينبغي تشجيعهم على أن يقربوا الأعمال الفنية بجسارة وأن يقيموها بما هي، وكثيرا ما يكون هؤلاء أكثر حساسية للشكل واللون مما يظنون. لقد رأيت أشخاصا يبدون ذوقا مرهفا في الأقطان والكاليكو وأشياء غير معترف بها كفن لدى القائمين على المتاحف، ثم لا يترددون في الإقرار بأن أي لوحة لأندريا دل سارتو
Andrea del Sarto
لا بد أن تكون أجمل من أي لوحة لأحد الأطفال أو أحد الهمجيين؛ فهم حين يتناولون الأشياء التي لا ينتظر منها أن تحاكي الأشكال الطبيعية أو تشابه الروائع القياسية، نراهم يطلقون العنان لحساسيتهم الأصلية، ولا تحل بهم الإعاقة التامة إلا في وجود فهرس. إن هيبة التراث هي ما يجثم على المشاهدين والمبدعين، وإن المتاحف عرضة تماما لأن تصبح اجتماعات «سرية» للتقاليد.
بإمكان المجتمع أن يصنع خيرا لنفسه وللفن بأن ينفخ عن المتاحف وصالات العرض غبار الثقافة المصنوعة
erudition
والعبق التفه لعبادة البطولة، فلنحاول أن نتذكر أن الفن ليس شيئا يبلغ بواسطة الدرس، لنحاول أن نراه كشيء يستمتع به كما يستمتع المرء بحالة حب، وأول شيء علينا أن نفعله هو أن نخلص الانفعالات الإستطيقية من استبداد الثقافة المصنوعة. أذكر أني كنت جالسا يوما خلف سائق حافلة قديمة تجرها الخيل، وإذا بصف من حملة الإعلانات يعبرون طريقنا حاملين ملصقة
The Empire (الإمبراطورية)، وكان اسم
Unknown page