حين نقول إن فناني الحركة يلحون على التصميم، فإن هذا لا ينفي أن بعضهم ملونون ممتازون بدرجة استثنائية. إن سيزان مثلا واحد من أعظم الملونين الذين شهدتهم الدنيا، وهنري ماتيس ملون عظيم، إلا أن كلهم، أو كلهم تقريبا، يستخدمون اللون كحالة للشكل، إنهم يصممون باللون؛ أي يجبلون تصميمهم في هيئة أشكال ملونة، وقليل جدا من وقع منهم في خطأ اعتبار اللون غاية في ذاته أو اعتباره شيئا مختلفا عن الشكل. إن اللون في حد ذاته قليل الدلالة أو لا دلالة له على الإطلاق، ومجرد رصف درجات اللون بعضها بجوار بعض لا يكاد يحرك فينا ساكنا، أو كما يحلو للملونين أنفسهم أن يقولوا «إن المقادير هي ما يهم.» إنما نميز الملون لا بمزجه الألوان واختيارها، بل بالأشكال التي تتخذها ألوانه وتضافرات تلك الأشكال، ولا يصبح اللون دالا إلا عندما يصبح شكلا. وإنه لمن مناقب الفنانين المعاصرين أنهم ناهضوا بشدة عادة رصف بقع جميلة من اللون دون كثير اعتبار لعلاقاتها الشكلية، وأنهم سعوا إلى أن ينظموا درجات اللون بحيث تسمو بالشكل إلى أعلى دلالة له. ولكن ليس من المستغرب أن جيلا من الملونين الفائقي البراعة والجاذبية على افتقارهم الشكلي لا بد أن يصدمهم إقحام تلك الخطوط السوداء التي تبدو كأنها تغتصب حبيبتهم! إنهم يتأذون من اللوحات التي تخلو من السحر العارض للتحدر اللوني الرقيق والتوزع الموفق للضوء والظل (الكياروسكيورو
chiaroscuro )، ولا يروقهم العزم الصارم لهؤلاء الشبان على جعل عملهم مستقلا ومتكئا على ذاته وغير مدين بالفضل لحلى خارجية، وهم عاجزون عن فهم هذا الولوع بالأعمال التي تروق بوصفها كلا. وهذا الإلحاح العنيف على التصميم، وهذا الاستعداد لترك البناء عاريا إذا كان من شأن ذلك أن يعين المشاهد على تصور الخطة. إن نقاد العصر الانطباعي محنقون من جراء تلك العظام والعضلات العارية بلوحات ما بعد الانطباعية، إلا أنني من جانبي، ورغم إصرار هؤلاء الفنانين الشبان على تبني شكل عاطل أجرد يفوق كل ما وقعت عليه أبصارنا، فليس لي أن ألوم زمرة من المتنسكين الزاهدين في عصر الطلاوة غير المشكلة؛ إذ يصرون على الأهمية الكبرى للتصميم. (3) المغالطة الوجدانية (التشخيص)
The Pathetic Fallacy
15
أتصور أنه لو سئل العديد من أولئك المتحمسين للحركة الجديدة عما يعتبرونه أهم خصائصها لأجابوا: التعبير عن وجهة نظر جديدة ومتفردة. ولقد سمعت أناسا يقولون «ما بعد الانطباعية هي تعبير عن الأفكار والمشاعر الخاصة بتلك النهضة الروحية التي تتنامى الآن إلى ثورة مشبوبة.» وهذا بالطبع ما لا يمكنني أن أوافق عليه، فإذا كان الفن تعبيرا عن أي شيء فهو تعبير عن انفعال عميق وعام وشائع (أو على الأقل ممكن) في جميع العصور وليس مميزا لأي عصر، ولكن إذا كان هؤلاء المتعاطفون مع الحركة الجديدة يعنون (كما أظن) أن فن هذه الحركة هو مظهر لشيء ما مختلف عنها (سيقولون أكبر منها)، لثورة روحية في الحقيقة، فلن أختلف معهم في ذلك. إن الفن مؤشر أمين للحالة الروحية لهذا العصر مثلما هو لغيره. وفي محاولة الفنانين تخليص فن التصوير مما يعلق به من تقاليد الماضي القريب واستخدامه كوسيلة لا ترمي إلا إلى أسمى الانفعالات، فقد نقرأ دلائل عصر يستحوذ عليه حس جديد بالقيم ويتوق إلى استغلال هذا الاستحواذ استغلالا صالحا. إن من غير الممكن أن نزور معرضا حديثا جيد المستوى دون أن نحس أننا قد رددنا إلى عالم لا يخلو من شبه بذلك العالم الذي أنتج لنا الفن البدائي، فها هم أناس يأخذون الفن مأخذ الجد، وربما يأخذون الحياة أيضا مأخذ الجد. ولكنهم إن كانوا يكبرون الحياة فلا لشيء إلا لأن بها أشياء (كالنشوة الإستطيقية مثلا) جديرة بالإكبار. إن بوسعهم في الحياة أن يميزوا بين الغابة وبين بضع الشجرات الجميلة، أما الفن فإنهم يعرفون انه أمر أجل من أن يكون نقدا للحياة. لن يزعم هؤلاء أن الفن تجارة في أسباب الراحة المنزلية؛ فهم يعرفون أنه ضرورة روحية. إنهم لا ينجرون أثاثا جميلا ولا يصوغون حليا صغيرة تافهة ولا تذكارات رائقة، إنهم يخلقون أشكالا تثير أروع الانفعالات وأعجبها.
مثل هذا الفن يغري بأن نفترض أنه يتضمن موقفا ما تجاه الحياة، فهو ينطوي فيما يبدو على اعتقاد بأن المستقبل لن يكون مجرد تكرار للماضي، بل سينتزع لهم، بفضل أناس مريدين فاعلين، حياة تحقق فيها مطالب الروح والعاطفة وبعض التقدم ضد ضروريات الوجود المادي. أقول «فيما يبدو»، غير أن من التهور أن نعتبر أي شيء من هذا أمرا مفروغا منه، ومن جهتي فإنني أشك في أن يكون الفنان الجيد مكترثا بالمستقبل أكثر من الماضي، فلماذا يتعين على الفنانين أن يكترثوا بمصير الإنسانية؟ إذا كان الفن لا يبرر نفسه فإن النشوة الروحية تبرر نفسها، أما هل قدر لهذه النشوة أن تستشعرها أجيال المستقبل من الصانعين الفضلاء والقانعين، فتلك مسألة ليس لها أهمية نظرية: النشوة تكفي، وليس لدى الفنان حاجة إلى الاكتراث بالآتي أكثر مما لدى العاشق بين ذراعي حبيبته، ثمة لحظات في الحياة هي غايات ليس بالكثير عليها أن يكون تاريخ البشرية بأسره وسيلة إليها، من بين هذه اللحظات، لحظات النشوة الإستطيقية، ومن العبث أن تتصور أن الفنان يقوم بعمله وإحدى عينيه مصوبة إلى الدولة العظمى المستقبلية، مثلما هو من العبث أن تلتمس في فنه تعبيرا عن الآراء السياسية أو الاجتماعية. ليس موقف هؤلاء الفنانين تجاه الدولة أو تجاه الحياة هو ما يجعل الحركة الجديدة معبرة عن العصر، بل موقفهم الخالص والجاد تجاه فنهم، إنهم أناس يرفضون أي تنازل، ولا يقبلون أن يتخذوا موقفا وسطا بين ما يعتقدونه وما يريده الجمهور، أناس يرفضون تماما، وبحدة زائدة أحيانا، أن يشغلوا أنفسهم أقل شغل بما يرونه تافها غير ذي بال. إن من السخف أن نسمي فن الحركة الجديدة فنا ديمقراطيا كما فعل البعض؛ فجميع الفنانين أرستقراطيون بمعنى معين؛ إذ ليس هناك فنان يعتقد في المساواة البشرية اعتقادا صادقا، أما أن ننعت فنانا بأنه أرستقراطي أو ديمقراطي بأي معنى آخر فهو بمثابة أن ننعته بشيء غير ذي صلة أو بشيء مهين. إن من يخلق الفن خصيصا لكي يحرك مشاعر الفقراء، أو لكي يسر الأغنياء، إنما هو عاهر مهما حاز من فضائل ، وكم من فنان عطل نفسه أو دمرها حين زعم أنه إلى جانب التمييز بين الفن الجيد والفن الرديء هناك تمييز آخر بين الفن الأرستقراطي والفن العامي. إن كل فن هو فوضوي بمعنى ما، فمن يأخذ الفن بجدية لا يسعه أن يأخذ التقاليد والمبادئ التي تقوم عليها المجتمعات مأخذ الجد، ولنا أن نقول دون أن ننأى كثيرا عن الصواب إن ما بعد الانطباعية هي حركة فوضوية بشكل خاص؛ لأنها تؤكد بإصرار شديد على ما هو جوهري وتتحدى بعنف شديد التعاليم التقليدية للفن، مما يتضمن في افتراضي تحديا للتصور التقليدي للحياة، وهي برفعها الفن إلى أعلى مكانة، إنما تحط من شأن الحضارة الصناعية وتنزلها أدنى منزلة؛ ومن ثم فهي قد تتفق هنا مع الروح الأشمل والأخفى للعصر. إن محاولة إنتاج فن جاد قد تكون مؤشرا على وجود تململ تحتي وسأم من النزعة المادية المتغطرسة وتصور للحياة أكثر عمقا وروحية. إن فن الحركة الجديدة، بوصفه فنا، لا يعبر عن أي شيء زماني أو محلي، ولكنه قد يكون تجليا لشيء ما يحدث هنا والآن، شيء لا يزال صعبا فيما يبدو على غالبية البشر أن يعوه.
ينصرف النساء والرجال الذين اهتزوا من فورهم للدلالة الإستطيقية الخالصة لأحد الأعمال الفنية، ويمضون إلى الحياة الخارجية وهم في حالة من الإثارة والطرب تجعلهم أكثر حساسية لكل ما يجري حولهم. وهكذا يدركون بحدة زائدة معنى الحياة وإمكانها، وليس من المستغرب أنهم لا بد أن يتأولوا هذا الحس الجديد بالحياة ويقرءوه في ذلك الشيء الذي أنتجه، لا بأس بذلك الفعل على الإطلاق ولن أنازعهم في شأنه؛ فأن تتحرك مشاعرك للفن أهم بكثير من أن تعرف على وجه التحديد ما الذي يحركها، فقط أريد أن أذكرهم رغم ذلك بأنه إذا كان الفن لا يعدو ما يتخيلون أحيانا أنه الفن، لما كان له أن يحرك مشاعرهم بهذه الطريقة. إذا كان الفن مجرد إيعاز بمشاعر الحياة فلن يمنح العمل الفني لكل شخص أكثر مما جلبه كل شخص معه، إنما يحركنا الفن بهذا العمق وهذه السرية لأنه يضيف إلى خبرتنا الانفعالية شيئا ما جديدا، شيئا يأتي لا من الحياة البشرية بل من الشكل الخالص. أما أن الفن بالنسبة للكثيرين لا يكتفي بإضافة شيء جديد بل يبدو أنه يغير القديم ويثريه؛ فهو أمر مؤكد ولا يدعو إلى أدنى ابتئاس.
والحق أن هذا الفن المتقد والصارم للحركة المعاصرة ليس دليلا على الخميرة العامة فحسب، إنه أيضا الإلهام، بل والمعيار، لجيل شاب وعنيف وقوي. إنه المظهر الأكثر بروزا ونجاحا لإرادتهم، أو هو ذلك في نظرهم. إن الإصلاح السياسي والإصلاح الاجتماعي، وحتى الأدب، يتحرك ببطء، سائخا في النزعة المادية والتقليد المائع، يدعي الاشتراكيون، وإن كانت لهم مبرراتهم، أن الليبراليين يمتطون جيادهم ولا يزال الفوارس يلبسون الأزرق والسترة العسكرية، ويقف مستر لويد جورج بلا ثبات على كتفي مستر جلادستون، بينما يتعلق معظم زملائه بظهره، فلو أننا جعلنا الأدب محك الاختبار لتمنينا من فورنا أن نرد إلى القرن التاسع عشر، فليس هناك روائي من الطبقة الأولى في أوروبا (إلا أن يكون توماس هاردي)، وليس هناك شاعر من الطبقة الأولى، ودون غض من شأن دانزيو وشو وكلوديل يمكننا أن نقول إن إبسن هو أعظمهم. ومنذ موزار لم تتخلص الموسيقى تماما من الواقعية والرومانسية والميلودراما. ويبدو أن الموسيقى تقف الآن حيث كان التصوير في زمن كوربيه
Courbet ، إنها تنتقل الآن خلال عقلانية معقدة وواقعية مسخطة براقة، لكي تصل، فيما آمل، إلى درجة أكبر من الخلوص.
16
Unknown page