Al-falsafa al-Injlīziyya fī miʾat ʿām (al-juzʾ al-awwal)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
114
أي إن الأخلاق علم وضعي وتجريبي محض، وليست علما تأمليا نظريا، وهي مرتبطة ارتباطا ضروريا وثيقا بعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وما شابه ذلك من العلوم، ومهمتها هي وصف الظواهر الأخلاقية كما نجدها في الماضي والحاضر، وبوصفها وقائع للتجربة موضوعة في سياق عيني من المواقف والظروف.
وهكذا كان الجزء الأول من كتاب تيلور تحليلا نفسانيا للشعور الأخلاقي بوصفه منبع السلوك وأساس الحكم الأخلاقي ، وهو هنا ينضم صراحة إلى صف النظرية الإنجليزية في الشعور الأخلاقي كما ظهرت في القرن الثامن عشر (على يد شافنسبري وهتشسون وهيوم وآدم سمث)، ويرمي، بإبقائه الأخلاق على مستوى ثابت هو مستوى الحقيقة اليومية، إلى تشييد حصن يحمي الأخلاق من التركيبات والتجريدات اللاواقعية التي يبينها الأخلاقيون المنتمون إلى المدرسة الهيجلية. وهكذا رأى أن كل محاولة لبناء الأخلاق على الميتافيزيقا تنطوي على خطر تفريغ الحياة الأخلاقية من واقعها العيني، وإثقال دراستها منذ البداية بتركيب نظري بحت لا يمكن أن يكون فيه مكان لجميع الظواهر المتصلة بالموضوع. مثال ذلك أن الأخلاق لا شأن لها بالذات الأزلية اللازمانية التي قال بها جرين، وإنما هي تعنى فقط بالذات التجريبية التي تتجسد في لحم ودم، وبالظروف المادية والفسيولوجية والنفسية التي تتحكم فيها. ولعلم الأخلاق مهمة أخرى، إلى جانب التحليل الوصفي للظواهر الأخلاقية، هي تعقب الظواهر إلى بداياتها البسيطة، والبحث في أصل الأفكار الأخلاقية وتطورها، وهو ما أصبح يعرف في ألمانيا، منذ أيام نيتشه، بأصل نسب الأخلاق. وفي هذا الميدان أسفرت تحليلات تيلور العميقة المفيدة عن نتائج رائعة، فمناقشاته لأصل ودلالة تصورات كالإلزام والضمير والمسئولية والخير والشر والشخصية الأخلاقية، لها قيمة دائمة، ولا ينقص من قدرها على الإطلاق عدم كفاية الأسس النظرية لهذا البحث في مجموعه. ومع ذلك فعلى الرغم من قيمة أفكاره واستنتاجاته - مأخوذة على حدة - فإن عودته إلى المذهب التجريبي في القرن الثامن عشر كانت خطأ كبيرا، وخاصة بالنسبة إلى مفكر تربى في مدرسة جرين وبرادلي وذاق ثمار كانت وهيجل. وعلى الرغم من كل ما كان يدين به لبرادلي، فإنه أدار ظهره عمدا لكتابه «دراسات أخلاقية»، الذي عرضت فيه الآراء الأخلاقية للمثاليين الألمان لأول مرة، وبفهم عميق، في إنجلترا. وهكذا فإن عودة تيلور الانتكاسية إلى المذهب النفسي والنسبي، وكذلك إلى مذهب اللذة كما سنرى فيما بعد، كانت تخلفا عن العصر الذي عاش فيه، لا يكفي لتبريره الاستدلال الدقيق الكامن من ورائه ولا الأفكار القيمة الكثيرة التي ظهرت مقترنة به (ولكنها لم تظهر منه).
ونظرا إلى رفض تيلور لكل مبدأ عقلي، وقصره الأخلاق على وقائع التجربة، فقد أخذت أبحاثه تدفعه، على نحو متزايد، إلى السير في طريق شكاك، وإلى الوقوع في صعوبات ديالكتيكية، ويتجلى تأثير برادلي بوضوح لأول مرة في نقله للديالكتيك التحليلي الذي اتسم به الجزء الأول من «المظهر والواقع»، بطريقة بارعة إلى أبعد حد، إلى مجال الأخلاق.
وكان من المحتم أن يؤدي الحط من عالم التجربة إلى منزلة المظهر البحت، إلى نتائج هدامة بالنسبة إلى مذهب أخلاقي تجريبي محض، وبالفعل نجد أن نظرية تيلور التجريبية في الأخلاق، شأنها شأن نظرية هيوم التجريبية في المعرفة، تنتهي إلى مذهب في الشك؛ ذلك لأنه ينتهي إلى أن ميولنا الأخلاقية، بمجرد أن تتحرر من الشعور الأخلاقي البدائي الذي هو أساسها المشترك، تتطور في اتجاهات متباينة، بل إنها تبلغ من التباين، في نظره، في تلك الثنائية القائمة في كل الأحوال بين الأنانية والغيرية.
فكلا هذين الموقفين قد اكتسب موافقة أخلاقية وادعى لنفسه قيمة مطلقة. وهكذا تواجهنا على الدوام فكرتان متقابلتان إلى الأبد، إحداهما فكرة تنمية الذات، والأخرى فكرة خدمة المجتمع، وتعجز النظرية الأخلاقية تماما عن البت في أيهما الأفضل، فمن المحال على نحو قاطع إيجاد مركب نهائي يجمع بين تحقيق الذات وبين التضحية بالذات.
والنتيجة التي ينتهي إليها هذا الاستدلال الذي ينطوي على دور منطقي واضح، هي أن الأخلاق ليست نسقا من الاستنباطات العقلية من مبدأ ميتافيزيقي واحد، وإنما هي مجموعة من التعميمات التجريبية التي لا يمكن جمعها تحت نسق مترابط من الفروض، ومن هنا فإن الأخلاق، شأنها شأن الفيزياء وكل العلوم الخاصة الأخرى، لها طابع مؤقت فحسب، ولا يمكن أن ترتفع إلى مستوى القول بمعايير باقية لمبادئ ذات صحة شاملة، فهي في أساسها لا عقلية. وما نسميه بالمثل الأخلاقي الأعلى هو في واقع الأمر موقف وسط بين استقطاب الميول الأنانية والغيرية، وهو الاستقطاب الذي يتمثل في المجال الأخلاقي بأسره. أما فكرة التقدم الأخلاقي فهي وهم باطل؛ إذ لا يوجد اتجاه واحد محدد للحركة، وكل تقدم ظاهري يقابله تأخر.
وإذن فليس من المستغرب أن نرى تيلور يسير خطوة هامة في اتجاه ما يسمى بمذهب اللذة الأخلاقي، وذلك مع رفضه مذهب اللذة النفسي، كما فعل جرين وبرادلي وسدجويك وغيرهم. وكان يعني بمذهب اللذة الأخلاقي ذلك المذهب القائل إن اللذة طابع أساسي لما له قيمة أخلاقية، وإننا نستطيع - بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية - أن ننظر إلى وجود اللذة على أنه علامة إعلاء طاقات الحياة، فإن اللاذ يكون خيرا بقدر ما يؤدي هذه الوظيفة، غير أن مثل هذه الأفكار - التي تخضع الأخلاق للمقولات البيولوجية - ليست لها إلا حقيقة نسبية.
على أن الأرجوحة الديالكتيكية عند تيلور تنتقل بعد ذلك إلى الجانب الآخر، لكي ننصف الفكرة المضادة، وهي فكرة الواجب، صحيح أن أية أخلاق تجريبية تستبعد الأمر المطلق، بالمعنى الذي قال به كانت، ما دام هذا الأخير يرتبط بفلسفة ترتكز على مبادئ أولية مطلقة، ومع ذلك فهناك أوامر، غير أنها دائما موجهة إلى أشخاص فرديين في مواقف خاصة، وعلى الرغم من أنها يمكن أن تغدو ملزمة أو إجبارية بالنسبة إلى جماعات معينة من الأفراد والطوائف، فلا يمكن أن تكون لأي منها صحة أولية شاملة؛ ذلك لأن المقدمة التي ترتكز عليها الأخلاق هي أن كل ما هو واقعي قابل للرد في آخر الأمر إلى واقعة للتجربة العينية.
ويؤكد تيلور صراحة اتفاق هذا المبدأ مع المبدأ الأساسي في نظرية المعرفة عند هيوم، وينبغي أن يقال إن تيلور قد عمل في مجال الأخلاق ما عمله هيوم في مجال المعرفة، إذ وجه كل جهوده إلى تطبيق مذهب تجريبي في الشك، أو مذهب شكاك تجريبي، مماثل لمذهب هيوم، على هذا الميدان، ويمكن أن يقال إنه تجاوز هيوم نفسه في هذا الميدان؛ إذ إن هذا الأخير، مع بنائه الأخلاق على أساس تجريبي، قد منعه حسه السليم من بعث الانحلال فيها عن طريق الشك. ومما يزيد الأمر غرابة أن تيلور رأى - في كتاب متعلق بنظرية المعرفة والميتافيزيقا نشره بعد ذلك بسنتين فقط، هو «أركان الميتافيزيقا» - أن يبتعد تماما عن هيوم ، ويستبدل بالحجج الشكاكة صيغ المذهب المطلق.
Unknown page