201

Al-falsafa al-Injlīziyya fī miʾat ʿām (al-juzʾ al-awwal)

الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)

Genres

فلدينا بالذوات الأخرى إدراك مباشر تماما، مثل إدراكنا لله، فلا يمكن أن تكون معرفتنا بالذوات الأخرى مستمدة من ذواتنا، أو من الأشياء الخارجية، أو من العلاقة بين الاثنين، وإنما هي كامنة، على نحو ما، من وراء كل هذه الأنواع من التجربة، فالذات الأخرى لا يمكن أن تكون بالنسبة إلينا مجرد موضوع ضمن الموضوعات الأخرى، وإنما هي تدرك دائما بوصفها شخصا واعيا بذاته، نستطيع أن ندخل معه، لأن لنا شخصية، في علاقات شخصية مباشرة.

وهكذا فإن الشخصية هي الفكرة الرئيسية المسيطرة على تفكير وب، ولا سيما بالصورة المنهجية التي أعطاها لتفكيره هذا في كتابه الرئيسي، وهو مجموعتا محاضرات «جيفورد» اللتان نشرتا بعنوان «الله والشخصية»، و«الشخصية الإلهية والحياة البشرية». وهو في ثاني هاتين المجموعتين يناقش التعبير عن الشخصية البشرية في مختلف مجالات نشاطها، مبينا نواحي التميز والاختلاف في المجال الاقتصادي والعلمي والفني والأخلاقي والسياسي والديني. وهو يتخذ على وجه العموم موقفا وسطا بين راشدال، الداعية المتعصب إلى الشخصية الفردية من جهة، وبين برادلي وبوزانكيت، اللذين أذابا الشخصية وأفنياها في ظلام المطلق، من جهة أخرى. ولكنه لا يرتفع إلى مستوى الأصالة العظيمة في التفكير، التي تثير فينا الإعجاب ببرادلي، وكذلك ببوزانكيت ولكن بدرجة أقل؛ ففلسفته لم تظهر بفضل قوة باطنة تدفعه إلى وضع مذهب، بقدر ما ظهرت عن طريق عرض آراء المفكرين الآخرين ونقدها. وربما اتضح آخر الأمر أن أكبر خدمة أداها هي أنه خفف من حدة مبالغات خطيرة معينة في المذهب المطلق الذي كان بطبيعته ميالا إليه.

تلقى تيلور تعليمه الفلسفي في الوقت الذي كانت فيه أكسفورد في قبضة الحركة الهيجلية، وكان أقوى الشخصيات تأثيرا فيه هو برادلي؛ فقد كان، بحكم عمله زميلا في نفس الكلية التي كان يعمل بها برادلي، واحدا من الأشخاص القليلين جدا الذين أسعدهم الحظ بالاتصال شخصيا بذلك الناسك في محرابه، وتمكن بفضل اتصالات يومية تقريبا، من مشاركة برادلي آراءه في الوقت الذي كان فيه برادلي يناضل في سبيل صياغة ميتافيزيقاه. وهكذا انطبع تأثير آراء المفكر الأكبر سنا بعمق على مؤلفاته الأولى، ولقد اعترف هو ذاته، بعد ذلك بوقت طويل، عندما كان قد ابتعد كثيرا عن موقفه الأول؛ اعترف بامتنان بأن تأثير برادلي «الذي مارسه على أنحاء شتى، ينبغي أن يعد أقوى وأنفع تأثير تعرض له تفكيري الخاص.»

112

وعلى الرغم من ذلك فمن المستحيل القول بأنه كان يتبع بإخلاص تعاليم برادلي أو أي معلم آخر في الفترة المتأخرة، فتيلور لم يكن فقط مفكرا مستقلا، وربما هوائيا إلى حد ما، بل إن ذهنه مرن لا يستقر على حال. ولقد أدت سعة اطلاعه إلى جعله يقيض بالعلم في أشد الميادين تباينا، وكانت له قدرة مدهشة على استيعاب مجالات غريبة للمعرفة والأفكار. وتشهد المجموعة الكبيرة من مؤلفاته في تاريخ الفلسفة بالاتساع الهائل في نطاق معرفته التاريخية، واستعداده العلمي العظيم. ولقد كان واحدا من أبرز الثقات في فلسفة القدماء، ولا سيما سقراط وأفلاطون (فلكتابه الضخم عن أفلاطون، وشرحه الذي يقع في سبعمائة صفحة لمحاورة «طيماوس»، مكانة فريدة وسط ذلك السيل المتدفق من المؤلفات التي تتناول أفلاطون، وذلك بفضل ما اشتملا عليه من معلومات زاخرة، ودقة في التفسير، وعمق في الفهم الفلسفي). وكان يتمتع بنفس القدر تقريبا من سعة الاطلاع في التفكير الدنيوي والديني في العصور الوسطى، وفي الكتابات الحديثة والمعاصرة في الأدب واللاهوت معا.

ولكن الذي يهمنا، في هذا المقام، هو تيلور الفيلسوف، لا المؤرخ والشارح والمترجم، ولقد كان السبب الوحيد لإشارتنا إلى هذه الناحية في عمله هو أنها قد أثرت في تفكيره الفلسفي على أنحاء شتى، فكل ما قدمه إلينا من أفكار خاصة به، يحمل دائما آثار علمه المتشعب الأطراف، فمن الواضح في كل نقطة أن هذا المفكر قد طرق أبوابا متعددة واستكشف ديارا كثيرة، وانتفع من المعلومات الوفيرة التي توصل إليها على نحو حي مثمر، بدلا من أن يكتفي بجرها وراءه وكأنها حمل لا حياة فيه. وعلى ذلك فإن مهمة تتبع مضمون تفكيره إلى مصادره هي جهد عقيم؛ إذ سيكون علينا عندئذ أن نبدأ باليونانيين ولا ننتهي إلا بآخر بدعة قال بها معاصروه. غير أن من الواجب أن نلاحظ أن المعرفة التاريخية الشاملة التي جمعها تيلور في ذهنه المتفتح على الدوام، على الرغم مما كان لها من فائدة في موقفه الخاص من المشكلات الفلسفية، كانت حملا ثقيلا وعقبة في وجه النمو الطبيعي لتفكيره، فانحرفت به في أكثر من مناسبة، من طريق إلى آخر، وأفقدته الاتصال ووحدة الهدف، وهي السبب في تلك التغيرات، الرئيسية منها والفرعية، التي تتصف بها رحلته الفلسفية، والتي لا يبدو أنها بلغت نهايتها إلا أخيرا، ما لم يكن يخبئ لنا مفاجأة جديدة، وإنه ليذكرنا - في تعطشه إلى المعرفة وقدرته على استيعابها - بمعاصره الألماني المتقلب المتشعب، شيلر

Scheler .

113

وأهم الكتابات الفلسفية التي ألفها تيلور كتابان: ينتمي أحدهما إلى بداية عهد نشاطه التأليفي والآخر إلى نهايته، وكلاهما يبحث في الأخلاق. ومن الكتب الأخرى التي ألفها بين هذا وذاك كتاب شامل في الميتافيزيقا، ينتمي إلى الفترة المبكرة، وبضعة أبحاث هامة إلى حد ما، كان معظمها مساهمات في حلقات دراسية أو في كتب مشتركة، وتتناول هذه الأبحاث مشكلات في الأخلاق والميتافيزيقا وفلسفة الدين، وتعبر عن موقفه في الفترة الأخيرة؛ إذ أنها ألفت خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة على وجه التقريب. وسنبدأ أولا ببحث مذهبه الأخلاقي؛ لأنه أولا مركز الثقل في فلسفته، ولأن بحثه له في فترتين يفصل بينهما زمان طويل، يتيح لنا فرصة رائعة لإظهار سمة التغير التي اتصف بها تطوره الفلسفي.

ويعد كتابه الأول «مشكلة السلوك»، الذي كان له عنوان فرعي له دلالته، هو «دراسة في فينومينولوجيا الأخلاق»؛ يعد هذا الكتاب - في نواح متعددة - أفضل عمل فلسفي له، وكان هو الذي أذاع شهرته عن حق. وهو في هذا الكتاب المبكر ذاته يتجلى بوصفه مفكرا شجاعا مستقلا لا يحجم عن استخلاص النتائج الجريئة أو الممتنعة. صحيح أنه اقتبس بعض أفكار برادلي ومضى بها - عن طريق التحليل الدقيق والديالكتيك البارع - إلى أبعد نتائجها، غير أنه تأثر بالجانب الشكاك في برادلي، على نحو ما يتبدى في كتابه «المظهر والواقع» (ولا سيما الفصل 25 في «الخير»)، أكثر مما تأثر بالمرحلة المثالية البناءة التي يمثلها كتاب «دراسات أخلاقية». وهكذا فسرعان ما وجد نفسه يقف موقف المعارضة الشديد للمدرسة الهيجلية، ولا سيما لجرين بوصفه المتحدث الرئيسي باسمها في ميدان الأخلاق، ويظهر التعارض أقوى ما يكون في فصله للأخلاق عن المذهب الفلسفي بوجه عام، وفي معالجته لها من وجهة نظر تجريبية محضة، فهجومه الأساسي موجه إلى الربط بين الأخلاق والميتافيزيقا كما يتمثل أصدق تمثيل في كتاب جرين «المقدمة»: «إن الأخلاق مستقلة، في مبادئها ومناهجها، عن النظر الميتافيزيقي، بقدر ما يستقل عنه أي علم من العلوم المسماة «بالطبيعة»، فمن الواجب التماس أساسها الحقيقي، لا في نظريات فلسفية حول طبيعة المطلق أو التركيب النهائي للكون، وإنما في الوقائع التجريبية للحياة البشرية كما تتكشف لنا في تجربتنا اليومية العينية.»

Unknown page