173

Falsafa Anwacha

الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

Genres

وسوف نقول المزيد عن هذا الموقف بعد قليل، ولكن يحسن بنا أولا أن نقدم عرضا موجزا لموقف المذهب الطبيعي؛ إذ إننا لن نستطيع أن نحكم بمدى إمكان الأخذ بهذا الموقف إلا بعد أن نفهمه فهما دقيقا.

وينبغي أن نذكر أنه، على الرغم من استعداد فيلسوف المذهب الطبيعي للانتظار حتى يبت العلم في مشكلة «المادة

Stuff » النهائية التي يصنع منها الكون، فإنه واثق أن الطبيعة العامة لنظام العالم هي طبيعة فيزيائية. وهو لا يعني بذلك ضرورة أن الكون «ليس إلا آلة هائلة»، وإنما يعني أن عملياته هي عمليات فيزيائية، وقواه قوى فيزيائية، وقوانينه قوانين فيزيائية. والنتيجة التي تترتب على ذلك هي أنه لا يمكن أن يوجد إلا نظام أو نمط واحد للوجود - أو بعبارة أخرى أن كل ما يوجد أو يؤدي وظيفته إنما هو جزء من نظام الطبيعة. وهذا يؤدي صراحة إلى استبعاد أي شيء فوق الطبيعة، أو أي شيء عال، من فئة الوجود الموضوعي، فالنظام الفيزيائي أو الطبيعي يضم في داخله كل ما هو موجود.

إنجازات العلم : يرى فيلسوف المذهب الطبيعي، شأنه شأن العالم الذي يستمد منه الجزء الأكبر من معلوماته والاتجاه العام لتفكيره، أن العمليات الفيزيائية والقوانين التي تسري عليها كافية لتعليل جميع الظواهر. أما الحالات التي تكون المبادئ المتضمنة فيها غير معروفة بعد، فإن فيلسوف المذهب الطبيعي يفترض أنها عندما تكتشف سيتضح أنها فيزيائية و«طبيعية»، مثلها مثل تلك المبادئ التي أثبتها العلم من قبل. ونظرا إلى التوسع المطرد للتفسيرات الطبيعية في ميدان تلو الآخر من ميادين التجربة البشرية، فلا بد أن يكون المرء على قدر كبير من العناد لكي يستطيع تحدي هذا الافتراض، وهكذا فإن كثيرا من الظواهر التي كانت تعد من قبل غامضة، بل خارقة للطبيعة، أصبحت تخضع للتحليل العلمي، بحيث إن الشخص الذي ينادي بأن بعض الظواهر الخاصة لا يمكن أن تخضع للتفسير العلمي على أسس فيزيائية لا بد أن يقع على عاتقه عبء ثقيل من الإتيان بالبينة على ما يقول. فلما كان فيلسوف المذهب الطبيعي يسلم بأن لكل الظواهر مكانا في الطبيعة، فإنه لا يستطيع - منطقيا - أن يعترف باستثناءات من هذا النظام الشامل للأشياء وللعمليات جميعا.

ومن بين هذه العمليات الطبيعية، نجد للعمليات التي تدرسها مختلف العلوم البيولوجية (وضمنها علم النفس) مكانة هامة في أي بحث عقلي في موضوع الخلود. ذلك لأن عالم البيولوجيا بدوره قد فرض سيطرة القوانين الفيزيائية الكيموية والتفسيرات الطبيعية على ميدان البيولوجيا بأسره تقريبا. وفي عهد أقرب قام علم النفس بتوسيع هذه السيطرة بحيث تمتد إلى ذلك الميدان الذي ظل طويلا يعد قلعة يتحصن فيها كل ما هو عال وخارق للطبيعة، وأعني به ميدان الشخصية الإنسانية أو «النفس». ولم يكتشف علم البيولوجيا أو علم النفس، كما تنبأ العالم وفيلسوف المذهب الطبيعي بجرأة منذ عهد بعيد، أية ظواهر تتناقض مع مصادرات المذهب الطبيعي، وإنما أيدت الكشوف، واحدا تلو الآخر، النظرية العلمية الأساسية القائلة بوجود علاقات علية يمكن التعبير عنها كميا، حتى أصبح من الممكن أن نأمل أن يجيء اليوم الذي يتمكن فيه علم النفس من تقديم تفسيرات لكل سلوك بشري تكون مبنية على أساس المذهب الطبيعي.

ومن أهم التعميمات التي صاغها عالم البيولوجيا، التعميم الآتي: لا توجد حياة بمعزل عن كائن عضوي، ولا يوجد ذهن، أو فكر، أو وعي بمعزل عن بناء فيزيائي عصبي من نوع ما. وبعبارة أبسط، فإن علم البيولوجيا يقول إنه لا يستطيع الاهتداء إلى مثال لحياة غير عضوية، أو لذهن بلا جسم. ويعبر علم النفس عن هذه الفكرة ذاتها بقوله إن كل تغير نفسي، وكل حادث ذهني هو، بقدر ما يستطيع هذا العلم أن يكتشف، إما مسبوق وإما مصحوب بتغيرات عصبية (أي فيزيائية)، وهذه الأخيرة تفترض بالطبع وجود بناء أو تركيب عصبي. ولما كان عالم النفس عاجزا عن الاهتداء إلى أي استثناء لهذا الأساس العصبي للنشاط الذهني، فقد كان من المنطقي أن يتوسع في هذا الحكم بحيث يجعل منه إحدى مصادرات علمه . هذه المصادرة يمكن التعبير عنها كما يلي: كل حادث نفساني يفترض مقدما حادثا عصبيا في صورة تغيرات في الطاقة داخل مجموعات الخلايا العصبية، ويعتمد على هذا الحادث العصبي على الأرجح. وعلى الرغم من أن عالم النفس يشعر بالحرج عندما يحاول الخارجون عن ميدانه أن يطلقوا عليه اسم «المادي»، فليس من الصعب أن نفهم أن مصادرته الأساسية هذه يمكن أن تفسر تفسيرا ماديا، كما يمكننا أن نفهم السبب الذي يجعل المدارس الفلسفية ذات الاتجاه الواقعي الصلب تهيب في كثير من الأحيان بعالم النفس بوصفه شاهدا خبيرا، لكي يؤيد على كره منه موقفها المعادي للمثالية والروحية.

النظرة الوظيفية : ينبغي أن نلاحظ أن تعميمات العلوم البيولوجية هذه تتمشى مع الأسلوب المتبع لدى معظم العلماء، الذين يأخذون بالنظرة الوظيفية إلى الظواهر كلما كان ذلك ممكنا. ومعنى ذلك، فيما يتعلق بالحياة والذهن، النظر إلى الظواهر البيولوجية بطريقة غير جوهرية. وبعبارة أبسط، فهو يعني أن الحياة والذهن معا يعدان «وظائف للكائنات العضوية»، لا كيانات في ذاتها. فليست «الحياة»، بالنسبة إلى عالم البيولوجيا، إلا لفظا مريحا للتعبير عن جموع عمليات معينة في التمثيل الغذائي والتكيف والتكاثر، لا جوهرا أو مادة تدخل الكائن العضوي عند مولده وتخرج منه عند مماته. وقد يفيد في تقريب هذه الفكرة إلى الأذهان أن نضرب لها مثلا من ميدان الميكانيكا. فالفيزيائي يعرف الحركة بأنها وظيفة للأجسام، تمثل بذلا للطاقة، وهي ليست كيانا أو جوهرا في ذاته. ولو كانت الحركة مجرد بذل للطاقة فإن هذه الطاقة عندما تتبدد كلها بالاحتكاك، لا يعود الشيء يؤدي وظيفته بوصفه شيئا متحركا؛ أي إنه يتوقف. فأين ذهبت الحركة؟ إذا كنا نعني «بالحركة» بذلا للطاقة، فإنها قد تبددت في صورة طاقة. أما إذا كنا نعني بالحركة مادة أو جوهرا كان حاضرا في الشيء، «فإنها» لم تذهب إلى أي مكان، «لأنها» لم تكن موجودة أبدا. ولنضرب لذلك مثلا أبسط، هو ذلك اللغز القديم الذي يتسلى به الأطفال: أين يذهب «حجرك» عندما تقف؟ والجواب بالطبع هو أنه لا يذهب إلى أي مكان؛ لأن «الحجر» ليس كيانا أو جزءا من جسمك له وجود مستقل، كأنفك مثلا، وإنما هو علاقة بين أجزاء معينة من جسمك عندما تكون في مواقع محددة، بالنسبة إلى بعضها وإلى المستويين الرأسي والأفقي.

النظرة الوظيفية في مقابل النظرة الجوهرية : عندما يحدث، أثناء قيادة المرء سيارته بسرعة، أن تصطدم إحدى الحشرات فجأة بزجاج السيارة الأمامي وتتحطم الحشرة على الزجاج، فمن الطبيعي أن نتساءل: أين ذهبت هذه الحياة الضئيلة؟ ذلك لأن التحول من كائن عضوي كامل يقوم بوظائفه كلها، إلى مجرد بقعة من المادة، يبلغ من الضخامة حدا يصعب معه على المرء ألا يقول بأن «شيئا» معينا، أو «مادة»، أو (جوهرا) قد اختفى. وعندما يقتل أمامنا إنسان بطريقة عنيفة وفورية مشابهة، يكون هذا الاعتقاد أقوى حتى مما سبق. ومع ذلك فإننا حين نعود بأذهاننا إلى النظرة الوظيفية التي يقول بها عالم البيولوجيا، نتذكر أن «الحياة» ليست إلا القدرة على القيام بعمليات معينة، أو مجموعة هذه العمليات - وأعني بها عمليات التكاثر والتعويض الذاتي والتكيف مع البيئة. فعندما يدمر البناء العضوي لأسباب طبيعية (كتقدم السن مثلا) أو نتيجة للإصابة في حادث، فمن الواضح أنه لا يعود يؤدي وظيفته عندئذ؛ أي إنه لا يعود «حيا». فأين ذهبت «الحياة»؟ إننا إذا استخدمنا اللفظ بالمعنى الوظيفي الذي يستخدمه به العلم، لقلنا إن «الحياة» لم «تذهب» إلى أين مكان. فالقدرة الوظيفية لم تعد موجودة، ولكن ذلك لا يعني أنها «ذهبت» إلى أي مكان، مثلما أن اختفاء «حجرك» عندما تقف لا يعني أنه ذهب إلى أي مكان. وبعبارة أخرى، فإننا بمجرد أن نحرر تفكيرنا من النظرة الجوهرية إلى الحياة، فإن قدرا كبيرا من السر والعلو الذي ينسب عادة إلى ظاهرة الموت يختفي فورا.

مثل هذا يصدق على «الذهن» أو «الوعي» أو «الشخصية». فإذا كانت لدينا نظرة جوهرية إلى الشخصية، كان من الطبيعي أن نشعر بأن من الضروري تعليل اختفائها عند الموت، وكان من المنطقي تماما أن نتساءل عما حدث لها، ونضطر إلى افتراض سماء، أو عالم آخر من نوع ما بوصفه مقرا لحياتها الأخرى المفترضة. أما إذا أخذنا بالرأي الوظيفي في الذهن، كما يقول به علم النفس المعاصر، فإن مثل هذا الافتراض لا يغدو غير ضروري فحسب ، بل يصبح غير منطقي. ذلك لأننا إذا نظرنا إلى «الذهن» على أنه مجرد اسم مريح لمجموع قدرات الفرد وخبراته - أو بعبارة أدق، لردود أفعاله العصبية الحالية الممكنة - فلن يكون في اختفاء هذا «الذهن» عند الموت أية مشكلة بالنسبة إلينا؛ إذ إن القدرة على رد الفعل، التي تتألف من طاقة عصبية كامنة، قد طرأ عليها تغير لا يزيد في غموضه على أي تغير للطاقة في الطبيعة. وماذا نقول عن ردود الأفعال العصبية المتراكمة، التي نسميها «أنماطا للعادات» و«ذكريات»؟ إنها لما كانت تمثل تغيرا دائما أو شبه دائم في التركيب العصبي، فلا بد أن تختفي هذه التغيرات بدورها بتحلل هذا الجهاز العصبي المعين، أو حدوث تغير في تركيبه الجزئي. وبعبارة أخرى فإن السؤال: «أين ذهب الذهن أو الشخصية؟» يغدو مشابها للسؤال: «أين يذهب شكل النبات أو تركيبه عندما يذوي ويتحلل؟» ذلك لأن «شكل» النبات و«تركيب» الذهن إنما هما تنظيم، وتنظيم فحسب. وهكذا يعود علم النفس الحديث إلى رأي أرسطو في هذا الصدد: فالذهن هو صورة الكائن العضوي (أو وظيفته، كما نفضل نحن أن نسميه)، وهو بوجه خاص وظيفة المخ والجهاز العصبي المركزي. فإذا تعرضت هذه الوظيفة، نتيجة للتحلل أو لحادث أو صدمة، إلى خلل مدمر، أو توقفت تماما، كانت هذه نهاية «الذهن» أو «الشخصية».

التعارض الأساسي بين الرأيين : من الواضح أن رأي المذهب الطبيعي، بما ينطوي عليه من تأكيد لفناء الجسم والذهن في وقت واحد، يبنى على مصادرة مضادة للمثالية، هي أن النظام الفيزيائي له الأولوية. والأهم من ذلك بالنسبة إلى المشكلة التي نحن بصددها، هو أن فيلسوف المذهب الطبيعي يرى الذهن معتمدا تماما على التركيب الفيزيائي (والتركيب العصيب على الأخص) للجسم. وبعبارة أخرى، فليس الجسم مجرد مقر «لنفس» مستقلة، أو أداة لها، وإنما الأمر على عكس ذلك: فالذهن لا يعتمد على الكائن العضوي الفيزيائي في وجوده فحسب، بل إنه هو ذاته لا يعدو أن يكون أداء هذا الكائن العضوي لوظائفه، ولا سيما حين يكون هذا الأداء مصحوبا بالوعي. أما المثالية فقد رأينا أنها تؤمن بأن للذهن مكانة وقيمة وأهمية أعظم بكثير مما يمكن أن يكون للجسم. كما رأينا أن المثالي يرى في الجسم خادما أو أداة للذهن الذي يسكنه مؤقتا. وهكذا يتضح التعارض الأساسي بين وجهتي النظر؛ ذلك لأن كلا منهما؛ إذ تبدأ بمصادراتها الخاصة، لا يمكنها إلا أن تصل إلى نتائج يقينية. فإذا كانت للذهن الأولوية في نظام العالم، وكان الوعي والطابع الفردي والشخصية هي أهم عناصر هذا النظام، فمن المنطقي أن نقول إن الذهن يمكن، بل يجب أن يبقى بعد الموت. أما إذا كانت الأولوية للعالم الفيزيائي أو المادي، وكان الذهن تطورا للمادة معتمدا عليها في وجوده كل الاعتماد، فمن المنطقي، بنفس المقدار، أن نقول عندئذ أن وعينا الفردي لا يمكن أن يظل باقيا بعد موت الكائن العضوي الفيزيائي. (6) أسس الإيمان

Unknown page