بماذا نستطيع أن نؤمن؟
من الواضح، فيما يتعلق بالله، والخلود، وغير ذلك من الأسئلة القصوى التي تحير الإنسان، أن موقفنا في هذه الحالة هو نفس الموقف الذي يتكرر دائما كلما كنا بصدد الإيمان؛ إذ إن ما يمكننا أن نؤمن به، سواء أكان متعلقا بالله أم بالطبيعة النهائية لأي شيء في التجربة البشرية، لا بد أن يتوقف على نوع الكون الذي نؤمن به. فإذا قبلنا الكون كما تصوره الميتافيزيقا المثالية، فعندئذ نستطيع أن نؤمن بأمور عديدة يستحيل علينا بالضرورة أن نؤمن بها لو كنا نرفض هذه النظرة إلى العالم. فقبول المذهب المثالي يؤثر حتما في منظورنا؛ إذ إننا حين ننظر إلى الكون بأعين المثالي، نرى لكل شيء دلالة وقيمة أخلاقية، ونرى «الغاية» كامنة في كل شيء، و«العقل» مسيطرا على كل شيء وكأنه يشرف على إخراج هذا المنظر الهائل. أما بالنسبة إلى فيلسوف المذهب الطبيعي، فإن الأمور تبدو مختلفة كل الاختلاف: فليس ثمة «معنى» أو «غاية» كامنة، وكل ما تكتسبه الأشياء والحوادث من معنى تضيفه عليها ردود أفعالنا تجاهها، ومواقفنا منها.
لم لا نؤمن؟
عند هذه النقطة من أية مناقشة بشأن الإيمان يثار عادة سؤال آخر. لما كانت النظرة المثالية تجعل العالم يبدو مكانا للعيش أحب إلى نفوسنا، وتضفي على المصير الإنساني مغزى كونيا، فلم لا يأخذ كل إنسان (حتى صاحب المذهب الطبيعي ذاته) بهذا الرأي؟ لسنا بحاجة إلى القول بأن المثالي أو رجل الدين هو الذي يثير هذا السؤال عادة، ولكن هذا لا يستطيع بالضرورة بطلان التساؤل ذاته. فإذا سلمنا بأن موجه السؤال لا يقتصر على أن يسألنا بسذاجة «لم لا يؤمن كل شخص كما أفعل» فإن التساؤل يكون أمرا طبيعيا؛ ففيه يعترف بأن المثالية أقدر من المذهب الطبيعي على مواجهة مطالب الرأس والقلب معا. ذلك لأن المثالي لديه من الطمأنينة والراحة ما لا يمكن أن يعرفه من يؤمن بالمذهب الطبيعي. وهكذا يكاد يبدو أن من العناد والمكابرة أن يرفض أحد هذه الطمأنينة التي تبعث السكينة في النفس.
وكما قال الكثيرون، فإن الإيمان لا يكلف شيئا، فلم لا نؤمن؟
وهنا أيضا نجد أن وليم جيمس قد يكون هو الذي عبر عن هذا الاتجاه أوضح وأشهر تعبير. ذلك لأن مقاله المشهور «إرادة الاعتقاد» إنما هو عرض برجماتي طويل موسع لهذا السؤال ذاته: إذا كان الأكثر إرضاء أن نؤمن بالله والخلود، فلم لا نؤمن؟ وقد وضع الفيلسوف الفرنسي «بليز باسكال
Blaise Pascal » الذي عاش في القرن السابع عشر، ما أصبح يعرف باسم «رهان باسكال»، ويعترف جيمس بأنه إنما يقتصر على التوسع فيه. فلنبدأ بكلمات باسكال ذاتها:
نستطيع أن نقول: «إما أن يكون الله موجودا وإما ألا يكون». ولكن إلى أي جانب ننحاز؟ إن العقل لا يستطيع أن يعيننا. فهناك هوة لا قرار لها بين المخلوق والخالق. فعلى أيهما تراهن؟ إن الأمر أشبه بقطعة نقود قد تظهر فيها صورة أو كتابة. فليس ثمة سبب لتأكيد أحد الاحتمالين على حساب الآخر. ولن تستطيع أن تقدم حججا تؤيد هذا دون ذاك.
وقد يقال إننا إذا لم نكن نعرف هذا ولا ذاك، فإن المسلك الصحيح هو ألا نراهن على الإطلاق. غير أن المراهنة أمر لا مفر منه، فهي شيء لا يتوقف على إرادتك. إنها عملية أصبحت مندمجا فيها بالفعل. فماذا ستختار؟
فلننظر في الأمر: إنك لما كنت مضطرا إلى الاختيار، فإن عقلك لن يشعر بإهانة إذا اختار أحد الأمرين أو الآخر. فتلك نقطة واضحة. ولكن ماذا نقول عن سعادتك؟ لنقارن الكسب والخسارة في حالة المراهنة على أن الله موجود بالفعل. إنك إذا راهنت على أنه موجود، وكان موجودا فأنت الرابح. ولو راهنت على أنه موجود ولم يكن موجودا فلن تخسر شيئا. فإذا كسبت، ربحت كل شيء، وإذا خسرت لم تخسر شيئا. فلتراهن إذن بلا تردد على أنه موجود بالفعل.
Unknown page