وما دامت نظرية المحاكاة العامة كانت هي التي تسود الإنتاج الفني والتفكير الجمالي معا، فإن المسألة الوحيدة الحقيقية المتعلقة بالصلة بين الفن والطبيعة كانت: أي أوجه الطبيعة ينبغي محاكاته؟ غير أن زيادة الاهتمام بالتعبير - حتى لو كان يعني التضحية بالجمال - قد استوجبت قيام الحاجة إلى صيغة جديدة تعبر عن هذه العلاقة، وقد كرس جزء كبير من الفكر الجمالي في الآونة الأخيرة لمحاولة وضع هذه الصيغة.
القيمة الجمالية في الطبيعة : من الجائز أن نتائج هذا الاهتمام المتزايد بالتعبير أكثر ثورية مما أدركه أي مفكر في القرنين الثامن عشر أو التاسع عشر. ذلك لأن التغير كان ينطوي، بصورة ضمنية على الأقل، على سؤال عميق عظيم الأهمية، هو: هل الطبيعة معبرة بحق؟ وإذا كانت كذلك، فما الذي تعبر عنه؟ فإذا ما أعدنا صياغة هذا السؤال على أساس تقسيمنا الثلاثي السابق لأنواع اللذة أو الإرضاء الفني، لأصبح كما يلي: ما هي القيم الجمالية التي توجد في الطبيعة، وما علاقتها بنظائرها في الفن؟ (1)
القيم الحسية : لا جدال في أن الطبيعة زاخرة بأمثلة اللذة أو الإرضاء على المستوى الأول، وهو المستوى الحسي، المستمد من إدراك التركيبات المادية والألوان والأصوات. إلخ. فتركيب ورقة زهرة، أو شاطئ مغطى بالطحالب، أو قطعة من الجرانيت المصقول كالزجاج، ولون الأشياء التي لا حصر لها في الطبيعة، وخصائص أصوات بعض الطيور وغيرها من الأصوات الطبيعية، كهزيم الريح خلال أشجار الصنوبر - كل هذه الأمثلة تقف أندادا لنظائرها الفنية من حيث القيم الحسية. ومن المعترف به أن تنوع اللذات الحسية التي تقدمها الطبيعة أضيق نطاقا مما يقدمه الفن (مثال ذلك أن الفن يستخدم أنواعا متعددة من السطوح المصقولة، على حين أنه لا يوجد في الحالة الطبيعية إلا القليل منها) غير أن تلك الأمثلة التي توجد في العالم الطبيعي قد تكون مصادر للذة الجمالية لا تقل تأثيرا عن نظائرها في الفن على الإطلاق. (2)
القيم الشكلية : أما على مستوى القيم الشكلية، وهي التي وصفناها بأنها هي القيم الناشئة عن إدراك شتى أنواع العلاقات، فأنا نجد نطاق الطبيعة محدودا بالقياس إلى الفن. ولكن هناك مع ذلك أمثلة طبيعية أصيلة كثيرة، ولا سيما في المجال البصري: فالزخارف التي تصنعها نتف الجليد والبلورات، والأزهار، والقواقع، والخطوط المتعرجة التي تحدثها الرياح والمياه في الرمال، والتركيب التماثلي لبعض الأشجار ولكل أشكال الحياة الحيوانية تقريبا - كل هذه تقدم أمثلة واضحة للقيم الشكلية. ومع ذلك فإن قليلا من التحليل كفيل بأن يبين لنا مدى بساطة هذه العلاقة الشكلية الطبيعية وتكرارها بالقياس إلى ما نجده في الفن. مثال ذلك أن التماثل الذي يظهر في الطبيعة على نطاق واسع يكاد يقتصر في كل الأحوال على التماثل الكامل، الذي يكون فيه نصفا الشيء متناظرين بكل دقة. فليس في وسع الطبيعة أن تقدم إلينا إلا القليل جدا من أنواع التوازن التي يقدمها الفن، والتي تتصف بالتعمق، والامتلاء، والإرضاء المتكرر. فالتوازن في الأشكال الطبيعية يعني في كل الأحوال تقريبا التماثل البسيط وحده، وهو التماثل الذي ندركه على الفور، ونمله بسرعة، على حين أن التوازن الذي يتمثل في كل من الفنون يمكن أن يكون مصدرا لسرور دائم ولكشف لا يكاد ينضب معينه. وأقصى ما يمكن أن تصل إليه القيم الشكلية الموجودة في الطبيعة هو أن ترتفع إلى مستوى لا يتجاوز أبدا مستوى «الأرابيسك» والزخارف التجريدية البسيطة، كتلك التي توجد في ورق الحائط والقوالب المعمارية، على حين أن معظم الأشكال أو الصورة الطبيعية أدنى مستوى بكثير من تلك الأشكال الفنية البسيطة ذاتها. ولا جدال في أن الطبيعة عاجزة عن أن تقدم شيئا يعادل في تعقده تلك التكاملات الشكلية التي تتحقق في التصوير، والشعر، والعمارة، والموسيقى.
هذا القصور الشكلي للطبيعة كثيرا ما يلخص بالقول إن الطبيعة تفتقر، من وجهة النظر الجمالية، إلى التنظيم والوحدة. فالجمال الطبيعي قلما يكون له «بداية، وسط، ونهاية»، على حين أن ما نسميه «بالذروة» لا يكاد يكون معروفا في العالم الطبيعي. وأية مركزية قد نصادفها إنما هي عادة مؤقتة، كما يحدث عندما يتعين علينا أن نتأمل منظرا طبيعيا من موضع معين بالذات لكي يبدو بديعا. وتبدو الطبيعة فقيرة بوجه خاص في القيم الجمالية عندما نقارنها بالفنون الزمنية. فلا توجد إلا ظواهر طبيعية نادرة، كالعواصف، توحي على أي نحو بالتعاقب الذي نجده في سيمفونية أو دراما، والذي يبدأ بالتمهيد، ويليه العرض الموسع، والذروة والخاتمة. ونستطيع أن نجد تشابها غامضا بين تفتح الزهرة وذبولها، شأنه شأن أية عملية عضوية ذات طابع متدرج، وبين تقديم العمل الفني في الزمان، أما أقرب حالات الطبيعة شبها، وهي تدرج الحياة البشرية ونموها، فإنها، رغم احتمال كونها أعقد من أي شيء في الفن، هي قطعا أقل توحدا وتنظيما وتكاملا من الأعمال الخلاقة الكبرى. (3)
القيم الارتباطية : وأخيرا، ماذا نقول عن القيم الارتباطية في الطبيعة؟ إلى أي شيء ترمز الطبيعة - وما الذي «تعنيه» الطبيعة؟ عند هذه النقطة نقترب من لب مشكلة التعبير في الطبيعة، ويكون لزاما علينا أن نبحث في الأهمية النسبية للجمال الطبيعي والفني.
إننا لا نحتاج إلى تفكير كثير لكي نكشف أن ما نقرره بشأن «معنى» الطبيعة أو ما ترمز إليه، لا بد أن يتوقف آخر الأمر على نظرتنا الشاملة إلى العالم. فالمثالي والمتدين معا، على سبيل المثال، يجدان الطبيعة معبرة عن «الذهن الشامل» أو «المطلق» أو «الله»، بحيث إننا لو نظرنا إلى الأمر في ضوء مشكلتنا الجمالية لقلنا إن الطبيعة تمثل في هذه الحالة الإنتاج الخلاق للفنان الإلهي. فالنظام الطبيعي بأكمله يمثل مظهرا «للفكرة» في قالب مادي. ولقد كان المفكرون المثاليون يميلون بوجه خاص إلى وصف الطبيعة بأنها عرض «للفكرة» في صورة حسية على حين أن أنواع التفكير الديني الأقل تمسكا بالنزعة العقلية كانت تكتفي بأن تسمى الطبيعة الجميلة «صنعة اليد الإلهية» أو «فن الله»، وهو الفن الذي يفترض أن الله خلقه ليكون منه متعة وآية لمن يرضى عنهم من عباده.
أما صاحب النزعة الطبيعية في الفلسفة، فلا يمكن في نظره أن يكون للجمال الطبيعي مثل هذا المضمون الرمزي؛ إذ يكاد يكون من المؤكد أن علم الجمال، عند المذهب الطبيعي، يرى أن كل ما نجده في الطبيعة من معنى وقدرة تعبيرية؛ أي من القيم الارتباطية، إنما هو أمثلة للمغالطة الوجدانية؛ أعني الميل العام لدى الناس إلى صبغ العالم الطبيعي بصفة حية أو بشرية عن طريق إسقاط مشاعرهم على موضوعها وحوادثها، كما هي الحال عندما نتحدث عن أسماء «غاضبة» أو بحر «يتوعدنا» أو نسيم «يداعبنا». فمن السهل أن تؤدي ألفة الناس الطويلة مع الطبيعة إلى الوقوع في هذه التشبيهات المتخلقة من الاتجاه البدائي إلى القول بحيوية الطبيعة، وهو الاتجاه الذي كان يضفي فيما مضى على كل صخرة وتل وشجرة روحا وإرادة خاصة بها. وإنه لمن العسير على المرء أحيانا أن يدرك أنه لو كانت نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم صحيحة، لما كان أي معنى تعبيري يوجد في الطبيعة - حتى الطبيعة الفائقة الجمال - إلا ما «قرأناه» نحن أنفسنا في بيئتنا.
وهناك بالطبع بعض الارتباطات الرمزية الموجودة في الطبيعة، والتي تتصف بأنها عامة شاملة، بغض النظر عن اتجاهنا الميتافيزيقي. ففي تجربة الناس جميعا في كل مكان، نجد أن الشمس تدفئ، والظل ينعش، والمطر يبلل، والنار تحرق. مثل هذه الاستجابات البشرية الأساسية لبيئتنا الطبيعية تمثل ارتباطات حقيقية، ويكاد يكون من المؤكد أن لها قدرا من الموضوعية يفوق ما لأية محاكاة لها في الفن. ومن هنا ينبغي أن نستنتج أن الطبيعة تنطوي بالفعل على بعض القيم الارتباطية الموضوعية ذات الطابع الجمالي، على الرغم من أن هذه نفسها تعدل، على الأرجح، تعديلا غير ظاهر نتيجة لتفضيلاتنا الفردية والميتافيزيقية.
9
Unknown page