وبطبيعة الحال فإن هذه الارتباطات أولية، ومن الواضح أن أية ارتباطات ثانوية نكونها مع الأشياء الطبيعية (كرائحة نوع معين من الزهر أو تغريد طائر معين) لا تختلف في طابعها الشخصي الذاتي عن نظائرها في مجال الفن.
هل العنصر الشخصي هام في الطبيعة بدورها؟
ما زال أمامنا سؤال أخير ينبغي أن نجيب عليه في هذه المقارنة بين الإمكانيات الجمالية للفن والطبيعة. فهل يقوم من يلاحظ الجمال الطبيعي بنفس عملية المزج الشخصي بين ثلاثة أنواع من القيمة، التي أشرنا إليها في حالة من يلاحظ الفن؟ من الواضح أنه يفعل ذلك حقا، ولا يقل عن ذلك وضوحا أن هذا المزيج يتفاوت حسب تجربة الشخص ومرانه ومزاجه، فضلا عن حالاته النفسية المتغيرة. ومع ذلك فهناك، في حالة الطبيعة، احتمال آخر قد يكون هاما، ولا سيما بالنسبة إلى الفترات الزمنية الطويلة؛ ذلك لأن الفرد قد يتغير أثناء نضجه، كأن ينتقل من المذهب المثالي إلى المذهب الطبيعي، أو بالعكس. ويكاد يكون من المؤكد أن هذا التحول في الاستقطاب الميتافيزيقي يترتب عليه تغير في «المعنى» الذي يجده في الطبيعة، وبخاصة الطبيعة الجميلة (وهي التي تهمنا الآن). وبإضافة هذا العامل المتغير الجديد إلى العناصر التي تكون مزيجنا الشخصي من القيم الجمالية، نجد أن الصورة النهائية الناتجة عن هذا الاندماج أكثر ذاتية على نحو قاطع، في حالة الجمال الطبيعي، مما هي في حالة الفن.
ولنلخص مقارنتنا بين ميداني التجربة الجمالية، فنقول إن الطبيعة والفن يقدمان إلى المشاهد، كما رأينا، نفس الأنواع الثلاثة من القيمة الجمالية. وفضلا عن ذلك فقد لاحظنا أن اثنين من هذه الأنواع، وهما الحسي والشكلي، يبدوان موضوعيين في كلا المجالين، على حين أن القيم الارتباطية هي مزج من الذاتية والموضوعية، أو ذات مكانة وجودية مشكوك فيها. ومن هنا فإن الفارق الرئيسي بين الميدانين، من حيث قيمتهما الجمالية، إنما يكمن في أن القيم الموجودة في الفن أشد تنوعا وتعقدا وامتلاء بكثير، وخاصة في علاقاتها الشكلية وقدرتها التعبيرية.
فارق أخير : وهناك اختلاف أخير بين الفن والطبيعة بوصفها مصدرا للقيمة الجمالية، يتعلق بمسألة القصد التعبيري؛ ذلك لأن كل فن، كما رأينا من قبل، ينتج بقصد أن يكون تعبيريا، حتى لو لم يكن يعبر إلا عن قيم حسية وشكلية، كما هي الحال في كثير من الأعمال الفنية المعاصرة. والواقع أن معظم الملاحظين والمستمعين غير المدققين خليقون بأن يخطئوا فهم المقصد الحقيقي للفنان؛ إذ إنهم يفترضون عادة أنه يهتم أساسا بتوصيل القيم الارتباطية والمعاني اللفظية، ولكننا لا نكون على خطأ إذا قلنا إن مقصده ينطوي على قدر من الدلالة التعبيرية. وعلى الرغم من أننا قد نخطئ معرفة طابع هذا المقصد، فإن حقيقة وجود مقصد يمكن أن تفترض دائما في حالة العمل الفني. أما في الموضوعات أو المناظر الطبيعية فإننا لا نستطيع أن نأخذ المقصد قضية مسلمة. فقد يؤدي بنا ولاؤنا الفلسفي أو اللاهوتي إلى افتراض وجود قدر كبير من المضمون التعبيري في الجمال الطبيعي، وحتى لو تجنبنا ذلك، فهناك دائما خطر وقوعنا في المغالطة الوجدانية عندما نكون إزاء الطبيعة. وهكذا يبدو من المعقول أن نستنتج أن في استطاعة الفنون لا أن تقدم إلينا قيما جمالية أغنى وأعمق مما تقدمه الطبيعة فحسب، بل أن تقدم أيضا عالما يقل فيه احتمال وقوف التحيزات الميتافيزيقية والمغالطات الإبستمولوجية حائلا بيننا وبين الواقع الجمالي.
ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هناك أشخاصا كثيرين يجدون في الطبيعة لذة جمالية أعظم مما يجدونه في الفن، وذلك نتيجة لمزاجهم الخاص أو افتقارهم إلى التجربة الفنية. كذلك لا يمكننا أن نقول إن موضوعا فنيا من الدرجة الثالثة ينطوي على قيمة جمالية تزيد على ما يتضمنه مثل من الدرجة الأولى للجمال الطبيعي، لا سيما إذا كان العمل الفني الضعيف المستوى محاكاة لمثال رائع من أمثلة الجمال في الطبيعة. ومع ذلك فإن مما له دلالته أن الأشخاص الذين كانت لهم تجربة واسعة في ميدان الظواهر الجمالية معا، والذين كرسوا للنقد وللتقويم وقتا طويلا وتفكيرا كثيرا، يرون عادة أن مجال الفن يتيح لذات لا يمكن أن توجد في الطبيعة، مهما يكن من جمال الطبيعة أو جلالها في بعض الأحيان. وهكذا فإن الخلط الشائع بين «علم الجمال» وبين «فلسفة الفن»، وإن يكن أمرا مؤسفا من الناحية العقلية، له بعض المبرر؛ لأن الفن هو المقر الرئيسي للقيمة الجمالية. (6) فلسفات أخرى في الفن
في هذه المقارنة الموجزة بين القيم الجمالية التي يخلقها الفن وتلك التي تكتشف في الطبيعة، بدا أننا نفكر على أساس نظرية المحاكاة في الفن، التي أشرنا إليها في هذا الفصل من قبل. ولقد كان ذلك أمرا لا مفر منه؛ إذ يبدو أن أية مقارنة بين الطبيعة والفن تنطوي ضمنا على القول بأن الأخير يحاكي الأولى على نحو ما. وإنه لمن العسير على معظم الأشخاص غير المتخصصين أن يتصوروا الفن، ولا سيما في وسائط التصوير والنحت، إلا على أنه تصويري أو مقلد. وهذه الصعوبة تفسر إلى حد بعيد الثغرة الواسعة التي تفصل بين النقد الفني المحترف وبين التقويمات الشعبية للفن. فالفنانون والنقاد يأخذون عادة فلسفة للفن؛ أي بنظرية تتعلق بهدف الفن أو وظيفته - تختلف عن نظرية المحاكاة التي يفضلها الشخص العادي. ومن ثم فإن المحترف يقبل على العمل الفني وفي ذهنه توقعات وشروط مختلفة بشأن ما ينبغي أن يفعله الفنان بما لديه من مواد.
فلنلق نظرة، في ختام هذا المدخل الموجز إلى عالم الجمال، على الفلسفات الرئيسية التي لا تقول بالمحاكاة في الفن؛ إذ يكاد يكون من المؤكد أن الناقد يستعين بواحدة أو أكثر من هذه الفلسفات ويتخذ منها نقطة ارتكاز عندما يقوم بمهمته في التقويم. والأرجح أنه، بوصفه قاضيا محترفا في الفن ، سيختلف عن الشخص العادي اختلافا ملحوظا في ناحية أخرى: فسوف يدرك أن هناك نظريات فنية عديدة، ويكاد يكون من المؤكد أنه سيعرف تلك التي يأخذ بها ويحكم على أساسها ، أما الشخص العادي يكون على الأرجح غير شاعر بوجود فلسفات فنية عديدة، ومن الأمور شبه المؤكدة أنه لا يدرك أنه يأخذ بنظرية معينة من هذه النظريات.
وأغلب الظن أن الناقد يقدر، والفنان يخلق، في أيامنا هذه، في إطار نظرية شكلية تؤكد القيم الجمالية الشكلية التي أشرنا إليها من قبل. ولا بد أن يتم هذا التأكيد على حساب القيم الارتباطية، ولا سيما القيم ذات النوع الأدبي أو الحاكي
Story-telling .
Unknown page