السلوك، والمسئولية، وظهور النظام الخلقي
كان غرضنا من ذكر ما جاء في الفصول السالفة أن نضع أساسا نبني فوقه تلخيصا معقولا لأبحاثنا عن تطور الحياة الخلقية عند قدماء المصريين، تلك الحياة التي بدأت في التطور من عهد الاتحاد الثاني ؛ أي في الفترة التي وصلت فيها مدنية الدولة القديمة إلى أوج عظمتها بعد سنة 3000ق.م. وقد لاحظنا فيما تقدم أنه منذ عهد الاتحاد الأول [أي قبل منتصف الألف الرابع ق.م] كان موضوع الخلق الإنساني تحت محك البحث، فكان يعبر عن هذا الخلق أو ذاك في المجتمع بأنه محبوب أو مكروه (أي ممدوح أو مذموم)، ولعلنا نذكر أن تلك الحقيقة قد كشفتها لنا وثيقة يرجع تاريخها إلى بداية الاتحاد الثاني؛ وهي المسرحية المنفية، فقد رأينا فيها ترديدا لأصداء من العصر السابق لذلك وهو ما قبل نهاية الاتحاد الأول.
والواقع أن نتف المصادر الضئيلة المدونة التي وصلتنا من القرون الأربعة الأولى من عصر الاتحاد الأول لم تزد معلوماتنا إلا الشيء القليل عن المعتقدات المصرية القديمة، ولكننا نجد بعد عام 3000ق.م (أي عندما بدأ عصر الأهرام) أن المقابر الضخمة الواقعة في جبانتي الجيزة ومنف (سقارة)، وهي معروفة لكل من ساح في مصر في عصرنا هذا، قد بدأت تبدو من نقوشها صور عن المجتمع المصري المستحدث في عهد الدولة القديمة، وصرنا نرى منها بعض لمحات عن معتقداتهم الخاصة بالخلق الإنساني وبواعثه.
وأهم ما تكشفه لنا هذه اللمحات التطورات الظاهرية؛ وذلك لأن الحياة المصرية القديمة كانت تشغلها في ذاك الوقت تلك الانتصارات المادية التي لم يسبق لها مثيل؛ إذ لم يوجد شعب آخر في بقاع العالم القديم نال من السيطرة على عالم المادة بحالة واضحة للعيان تنطق بها آثاره الباقية للآن مثل ما ناله المصريون الأقدمون في وادي النيل، فقد بنى المصريون القدماء بنشاطهم الجم صرحا من المدنية المادية يظهر أن الزمن يعجز عن محوه محوا تاما. وأما الأخلاق فهي اتجاه جوهر الحياة المنوع، الذي لا يدرك باللمس واللون، من العادات والتقاليد والصفات الشخصية المشكلة بتأثير القوى الاجتماعية والاقتصادية والحكومية التي تعمل باستمرار في مناهج الحياة اليومية.
وهذه الأشياء التي تكون اتجاه الفرد وتدفع بالنفس الباطنة إلى اتخاذ موقف وقتي حاسم تكون جوا أسمى للعالم القديم يصعب تحديده، ولم يصل إلينا عنها سوى لمحات جزئية نراها في مبنى القبر واتجاه باب الهرم. وقد وجدنا عنها بعض إشارات ضئيلة في متون الأهرام وفي نصائح «بتاح حتب» المشهورة، وحتى هذه الإشارات تدور كما شاهدنا بوجه خاص حول ذكر حالة الرفاهية المادية والنعيم المقيم الذي ينعم به المتوفى في عالم الحياة الآخرة. وعلى أية حال فإن ما تكشفه لنا المصادر الباقية يعد ذا فائدة فريدة في بابها؛ إذ تظهر لنا هذه المصادر الخطوة التالية في التطور الخلقي، بعد المسرحية المنفية التي تؤلف مع تلك المصادر أقدم دور في تطور الإنسان الخلقي كما هو معروف لنا، وهو الدور الذي كون أعظم الخطوات الأساسية في تطور الحضارة. يضاف إلى ذلك أن تلك المصادر التي من عصر الأهرام لم تجمع
1
معا قط من قبل؛ ولذلك فإنني عندما جمعتها لتدوينها من أجل وضع هذا الكتاب لم تكن دهشتي لكثرتها فقط، بل كانت دهشتي أكثر عندما أدركت أنها تصور لنا الحياة في الأسرة عند قدماء المصريين بصورة لا تدع مجالا للشك في أنها هي العامل الأول في ظهور الأفكار الخلقية ونموها؛ فقد كان المصري في عصر الأهرام يشعر بوجود جو من الوازع الخلقي يزعه، حتى إن متون الأهرام قد أظهرت لنا الآن ذلك الوازع مطلا على ما قد مضى من تلك العصور التي لم تكن تعرف معنى للخطيئة والشجار بين «أفراد تلك الجماعة الأولى» من طائفة الأبرياء الذين ولدوا قبل أن يوجد «الشجار» و«الصوت» و«السب» و«النزاع» أو «التشويه المروع»
2
الذي ارتكبه كل من «حور» و«ست» ضد الآخر. على أن الاعتقاد بوجود عصر للمثال الأعلى، أو على الأقل بوجود عصر للعدالة والسلام يجب أن نربط بينه وبين ذلك العصر الذي يشار إليه في متون الأهرام بأنه العصر الذي «قبل أن يظهر فيه الموت».
وفي ذلك العصر المبكر لأقدم جماعة بشرية وصلت إلينا أخبارها، ساد الاعتقاد بأن حق كل فرد في التحلي بالأخلاق الفاضلة يمكن أن يقوم على أساس النهج والسلوك اللذين يعامل بهما أفراد أسرته، وهم والده ووالدته وإخوته وأخواته. وهذه الحقيقة تعتبر ذات قيمة بالغة ومكانة عظيمة في ذلك البحث الجليل، وقد أكدها لنا أحد أشراف رجال الوجه القبلي الذي كان يعيش في القرن السابع والعشرين ق.م؛ إذ قال في نقوش قبره بعد أن عدد لنا كثيرا من أعماله الطيبة: «إني لا أقول كذبا؛ لأني كنت إنسانا محبوبا من والده، ممدوحا من والدته، حسن السلوك مع أخيه، ودودا لأخته.» كما نجد بعد فترة من تاريخ هذا النقش أن أحد المقربين من الملك من أهل الصعيد الأقصى يؤكد أيضا: «إن الملك مدحني، وترك والدي وصية لمصلحتي؛ لأني كنت طيبا ... وإنسانا محبوبا من والده ممدوحا من والدته ويحبه كل إخوته.» وكثيرا ما نرى الأشراف في عهد الأهرام يجمعون صفاتهم الحسنة في العبارة الآتية: «كنت إنسانا محبوبا من والده وممدوحا من أمه، محبوبا من إخوته وأخواته.»
Unknown page