أوزير.
وبذلك نجد أن «أوزير» قد حشر نفسه في تلك الطائفة الشمسية باحتلاله مكان «حور الأفق» الذي هو أقرب الآلهة الأربعة نسبة إلى الشمس. ويعد دخول «أوزير» هنا أكبر مثل مقنع لعظم قوته، كما يعد أظهر مثل لخطوات صبغ متون الأهرام بالصبغة الأوزيرية.
ويوازي ذلك المثل أيضا بحالة تلفت النظر تاريخ مولد الشمس؛ فإنها يحتفل بوقوفها في سيرها جنوبا وبداية عودتها شمالا، وكان مولد الشمس هذا في باكورة عهد المسيحية قد تحول إلى مولد الإمبراطور الروماني الذي كان مؤحدا من إله الشمس، ولا شك أن اتخاذ المسيحيين لذلك العيد الشمسي القديم والاحتفاء به في 25 ديسمبر يقابل بالضبط حلول «أوزير» محل إله الشمس في متون الأهرام منذ ثلاثة آلاف سنة قبل ذلك العهد المسيحي.
وبمثل ذلك صبغ بالصبغة الأوزيرية من زمن بعيد كل من السلم وقارب العبور والعوامات البردية، وبالاختصار كل العتاد الذي كان لازما للوصول إلى السماء، مع أنه لم يكن لأوزير بالسماء أية صلة، فلا عجب بعد ذلك إذا اندمجت السماء وسكانها في «أوزير» حتى صارت النجوم الثوابت (التي لا تفنى) تسمى «أتباع أوزير». وكذلك صار من الممكن أن نجد الملك ينقل إلى السماء بنفس الطريقة عندما يولد مثل «أوزير» ممثلا في صورة نيل السماء، ويفيض على السماوات كفيضان النيل على الأرض فيجعل كل السماء يانعة خضراء: «إن الملك «وناس» يأتي إلى بركته التي في إقليم الفيضان عند النيل العظيم، إلى مكان السلام ذي الحقول الخضراء التي في الأفق، و«وناس» يجعل الخضرة نضرة في إقليمي الأفق .»
وبالرغم من أن كل ذلك قد أدى إلى صبغ العقائد الجنازية الشمسية والسماوية بصبغة «أوزيرية»، فإن الحياة الآخرة مع ذلك بقيت سماوية، لذلك كان من الواضح أن إله الشمس عندما كان يأخذ «أوزير» إلى جواره فإن معنى ذلك أن مكانة إله الشمس في تلك العقائد الجنازية المركبة كانت لا تزال هي المكانة الأولى، وحينئذ تبقى الحقيقة القائلة بأن العقائد السماوية عن الحياة الآخرة هي السائدة في متون الأهرام كلها، أما عالم «أوزير» السفلي الذي ظهر فيما بعد، وكذلك سياحة إله الشمس فيه، فإنهما كانا ولا يزالان يعدان في مركز ثانوي بصفة قاطعة في تلك العقائد الجنازية الملكية، أما عامة الشعب فكان إله الشمس فيما بعد في نظرهم ينزل إلى العالم السفلي ليضيء على قوم «أوزير» في مملكة الأموات. ويعتبر ذلك من أهم البراهين الدامغة الدالة على قوة «أوزير» عند عامة الشعب، أما في لاهوت الملك والمعابد الحكومية فكان «أوزير» يرفع إلى السماء، ومع أنه كان مصبوغا هناك بالصبغة الشمسية فإن مذهبه كان هو الآخر يصبغ العقائد الشمسية الخاصة بمملكة الأموات السماوية بعض الشيء بصبغة العقائد الأوزيرية؛ فكانت نتيجة ذلك أن حدث ارتباك كان لا بد من حدوثه عند اختلاط تينك العقيدتين إحداهما بالأخرى.
فنحن نذكر أن الملك في كلا المذهبين قد تأحد مع الإله، وعلى ذلك نراه يسمى من غير تردد «رع» و«أوزير» في الفقرة الواحدة من فقرات متون الأهرام.
وتوجد في متون الأهرام فقرات كبيرة تدل على الارتباك والتعقيد الذي نتج من امتزاج تلك العناصر التي لا انسجام بينها، إذا كان التوفيق غير ممكن في مثل تلك الفقرات بين ظهور كل من «رع» و«أوزير» بمظهر الملك الأعلى في الحياة الآخرة. على أن مثل تلك المعتقدات الدينية المتضاربة لم يكن يشعر المصري القديم من جراء تضاربها بأي قلق أكثر مما كانت تشعر به أية حضارة قديمة أخرى باستبقاء طائفة من عقائدها الدينية جنبا لجنب مع عقائد أخرى تخالفها أو تتناقض معها كل التناقض. ولم تفلت العقائد المسيحية نفسها من تلك المتناقضات، كما أنها لم تفلت من تغلغل نفوذ الآراء المصرية القديمة عن الحياة الآخرة فيها؛ فنجد الآراء المصرية القديمة عن العالم السفلي وأبوابه الجهنمية وبحار اللهيب قد قامت بدورها في تصوير جهنم الحامية في الديانة المسيحية، كما أنه من المحتمل أن مملكة إله الشمس السماوية بما فيها من شجرة الحياة هي أصل فكرتنا نحن معاشر أهل الغرب عن الجنة التي في السماوات، وهي التي ظهرت فيما بعد في الصور المسيحية الفنية واضحة خلابة.
وعلى أية حال فإنه يوجد فرق ملموس بين «أوزير» و«رع»؛ فأوزير يعتبر ملك الأموات دون غيرهم، ووظيفته سلبية، حتى إنه يندر أن يقوم بعمل إيجابي حتى ولو كان لصالح عالم الأموات. ونعمة المصير الأوزيري ينحصر معظمها في التمتع بالخدمات الطيبة التي كان يقدمها «حور» قائما بدور ابن المتوفى حينما يتحول الأخير إلى «أوزير»؛ فالخدمات التي كان يقوم بها الآخرون (أي التي لا يقوم بها هو) هي التي يتمتع بها المتوفى (كما تمتع بها «أوزير» من قبل)، وبذلك بقي «أوزير» إلها للموتى.
أما «رع» فإنه كان صاحب قوة عظيمة في شئون عالم الأحياء، ومع أنه كثيرا ما يشفع للموتى فإن سلطانه الأعظم في هذا العالم الدنيوي، حيث يمتد وينمو حتى يسيطر على مملكة ذات قيم أدبية؛ وهي مملكة سنحصل منها على أقدم لمحات سنحت لنا عن كل هذا العالم، وذلك حينما نحاول الكشف عن عوامل هي فوق العوامل والمقاصد المادية التي رأينا أنها كانت فيما استعرضناه من المراحل صاحبة السيادة والسلطان على التصور المصري القديم عن الحياة الآخرة.
الفصل التاسع
Unknown page