وإن فخرتم بالإسلام، فليس الإسلام دين العرب وحدهم، بل هو دين الناس. والإسلام نفسه حارب نزعتكم، فهدم العصبية الجاهلية، وجعل مقياس الشرف التقوى، فالدين بيننا وبينكم، والدنيا نحن نحظى بها وأعرف بمزاياها، وأكثر تفننا في شئونها.
ويمثل هذا الصنف - ممن يحقرون العرب، ويضعون من شأنهم ويسودون كل أمة عليهم - من ظلوا على دينهم القديم، أو أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، أوغلبت عليهم النزعة الوطنية، فكرهوا من العرب أنهم أزالوا ملكهم، وأضاعوا استقلالهم.
هذه هي النزعات الثلاث التي كانت في ذلك العصر، وعلى هذا النحو كانوا يتجادلون. وقد أطلق على أصحاب النزعتين الأخيرتين اسم «الشعوبية»، وكان أحق الناس بهذا الاسم الطائفة الثانية؛ لأنهم يقولون «بالشعوب»، أي يقولون بأنه لا فرق بين الشعوب من عرب وغيرهم في الشرف والخسة، فكان أمامهم أن يتسموا باسم مشتق من «المساواة»، أو باسم مأخوذ من الشعوب، يدل على أن الشعوب سواء، فاختاروا الثاني وسموا «الشعوبية». ولذلك يقول في العقد الفريد: «الشعوبية وهم أهل التسوية» ويقول في الصحاح: «الشعوبية فرقة لا تفضل العرب على العجم.» ولكن لا نلبث أن نراهم أطلقوا هذا الاسم على الصنف الثالث أيضا؛ فلو قرأنا ما كتب الجاحظ، وصاحب العقد وغيرهما، وجدنا أنهم انساقوا في تسمية المعادين للعرب «بالشعوبية». والظاهر أن تسميتهم بهذا الاسم تأخرت عن تسمية أهل التسوية به، كما تأخرت الفرقة الثالثة عن الفرقة الثانية تاريخيا، فطبيعي - وقد كان العرب متغلبين في العصر الأموي، وكانت النزعة الأولى على أشدها وقوتها وسلطانها - أن يبدأ الموالي فيقولون بالمساواة فقط، وكل أمنيتهم أن يظفروا بذلك، حتى إذا اشتد الجدل، وأحس الموالي بقوتهم وسلطانهم أيام الرشيد والمأمون؛ ظهرت النزعة الثالثة تضع من شأن العرب، وترفع من غيرهم؛ فانسحب اسم «الشعوبية» عليهم، وصار يطلق على أصحاب النزعتين معا، بل حتى صار أكثر ما يطلق على الصنف الثالث، قال في اللسان: «والشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم فضلا على غيرهم.»
يستنتج مما ذكرنا أن لفظ الشعوبية مأخوذ من الشعوب جمع شعب، وهو جيل الناس، وهو أوسع من القبيلة، وأشمل، قال الزبير بن بكار: «الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة.» وعلى هذا فالعرب شعب، والفرس شعب ، والروم شعب، وهكذا. وقد ذهب قوم إلى أنها مأخوذة من الشعوب في قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . وقالوا: إن المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل قبائل العرب، وهو تفسير في نظرنا غير صحيح، وأوضح دليل على ذلك أن العرب لم تكن تفهمه حين نزول الآية، فقد نقل إلينا الطبري آراء كثير من الصحابة والتابعين في تفسير الآية، وكلها تدور حول أن المراد بالشعوب النسب البعيد، أو البطون والقبائل دون ذلك. والذي يظهر أن تفسير الشعوب بالعجم، والقبائل بالعرب تفسير شعوبي وضعه أعجمي، واستطرد منه إلى القول بأن العجم أفضل من العرب؛ لأن الله قدمهم في الذكر. قال ابن قتيبة: «وبلغني أن رجلا من العجم احتج بقول الله عز وجل:
يا أيها الناس .. الآية. وقال: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والمقدم أفضل من المؤخر. وقد كنت أرى أهل التسوية يحتجون بهذه الآية، وقد غلطوا من وجهين؛ أحدهما: أن تقديم الذكر لا يوجب تقديم الفضل. قال الله عز وجل:
يا معشر الجن والإنس
فقدم الجن على الإنس، والإنس أفضل منها. والوجه الآخر: أن العجم ليست بالشعب أولى من العرب، وكل قوم كثروا وانشعبوا فقد صاروا شعوبا».
من الجائز أن يكون اسم الشعوبية أخذ من الشعوب بعد أن فسرت الآية بهذا التفسير، ولكنه يكون مرتكزا على أساس خطأ. وأرجح أن اسم الشعوبية لم يستعمل إلا في العصر العباسي الأول، بدليلين ظنيين؛ الأول: ما أسلفنا، وهو أن هذه النزعة التي تحاول مساواة العرب أو تحقيرهم لم تتخذ شكلا قويا واضحا يصح أن يطلق على معتنقيه اسم إلا في هذا العصر، أما قبل ذلك فقد كانت نزعة خفية لا تستطيع الظهور، وإذا ظهرت أخمدت، والحاجة إلى الاسم إنما تكون بعد أن يتخذ المبدأ شكل عقيدة عامة أو حزب. الثاني: أننا لم نر من أطلق هذا الاسم على هذه النزعة في العصر الأموي، نعم إن الأصفهاني في الأغاني قال: إن إسماعيل بن يسار كان شعوبيا، ولكن من الواضح أن الأصفهاني (وهو عباسي) سمى إسماعيل بالاسم الذي يستحقه لما رفع شأن العجم، وتغنى في ذلك بشعره أمام هشام بن عبد الملك، وليس المعنى أن إسماعيل بن يسار عرف بذلك الاسم في عصره، وذلك كما عدوا سلمان الفارسي متصوفا، مع أن قائلا لم يقل بأن اسم الصوفية عرف في عهد سلمان. كذلك روي عن مسروق «أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه.» ومسروق تابعي كان في العصر الأموي، وقد فسر ابن الأثير الشعوب في هذا القول بالعجم، قال في اللسان: «ويجوز أن يكون جمع الشعوبي، وهو الذي يصغر شأن العرب، كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.» ونحن نستبعد التفسير الثاني؛ لأنه صادر من متأخرين، وقد فسروه بما عرفوه بعد عصر مسروق، والذي نراه: أن مسروقا أراد أن رجلا من الشعوب الأخرى غير العرب أسلم، وإذن لا يكون فيه دليل.
وقد يستأنس - على ما نقول - بأن أكثر أسماء المذاهب التي وضعت في صدر الدولة الأموية لم تكن فيها ياء بالنسبة؛ كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة، ولم تؤلف هذه النسبة إلا في آخر العهد الأموي، أو صدر العصر العباسي؛ كالجهمية، والقدرية، ثم الراوندية، والخرمية، والشعوبية، وأقدم ما وصل إلينا من الكتب التي استعملت لفظ الشعوبية كتاب البيان والتبيين للجاحظ.
Unknown page