كانت نتيجة هذا الصراع هزيمة العرب، وغلبة الموالي، ولكن يجب أن نقرر أن هزيمتهم التامة كانت من الناحية السياسية والإدارية، فأما دينيا ولغويا فقد انتصر العرب فلم تستطع المجوسية أن تساير الإسلام، ولم تستطع لغات الموالي أن تضع من شأن لغة العرب بل خدمتها وعملت على ترقيتها من نواح مختلفة، وظل الموالي الذين يخدمون أغراضهم السياسية، وينجحون فيها، يخدمون في الوقت نفسه الدين واللغة؛ يضعون قواعدهما، ويضبطون شواردهما، وحركات الزندقة التي كانوا ينفثونها من حين لآخر أخمدت في قوة، وإن كانت قد تركت أثرا ضئيلا، كما أن سعي بعضهم لإحلال اللغة الفارسية محل العربية لم يصادف في عصرنا الذي نؤرخه آذانا سميعة، وظلت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وهي لغة الدين، ولغة العلم، وأقبل الموالي على تعلمها، وإجادتها إجادة تقرب من إجادة أهلها، وحسبك دليلا أن أبا مسلم الخراساني كان يجيد العربية، ويفهم أراجيز رؤبة.
84
وأن أكثر الكتاب المجيدين في العربية في هذا العصر كانوا فرسا، وأن الأصمعي يحكي عن عصره: إن مما يخل بالمروءة التكلم في مصر عربي بالفارسية.
85
الفصل الثالث
الشعوبية
نستطيع بعد الذي ذكرنا في الفصل السابق أن نقول: إن عصرنا الذي نؤرخه كانت تسود فيه ثلاث نزعات:
النزعة الأولى:
تذهب إلى أن العرب خير الأمم، ولهم في ذلك حجج، نجملها فيما يأتي: (1)
أنهم عاشوا حياتهم متمتعين باستقلالهم؛ فهم في جاهليتهم جاوروا دولتي الفرس والروم، وكلتاهما دوخ البلاد وأسس ملكا عظيما، وكلتاهما كان له من الجند والعدد والعدة ما لا يحصى كثرة، ومع هذا فلم تجرؤ كلتاهما أن تمس استقلال العرب، وأن تطأ ديارهم، تملقوهم، واستعانوا باللخميين في الحيرة، والغسانيين في الشام، ومنحوهم المال، وقدموا لهم الديار ليحموهم من غارات عرب الجزيرة عليهم؛ فهم كانوا أحوج إلى العرب من حاجة العرب إليهم!
Unknown page