أين أجد القدرة على أن أدفع يدي مع هذه الأيادي وأحرك فمي مع هذه الأفواه! إنما أنا جالسة بين هؤلاء النساء أنظر إليهن ضيقة بهن، وأتلهى عن الجوع بهذا الخبز الرقيق المستدير الواسع أحطمه بين يدي وأصيب منه قليلا بين حين وحين، وأمنا تصيب من الطعام في قصد واعتدال، قد حال الحزن والحياء بينها وبين إرضاء حاجتها إلى الغذاء، وأختي واجمة ساهمة كأنها في أرض غير هذه الأرض، وفي حياة غير هذه الحياة.
ثم تفرغ الجفان ويتفرق النساء جماعات، ونهم نحن أن ننتحي ناحية، ولكننا لا نكاد نبلغ من ذلك ما نريد حتى يدركنا نسوة ثلاث يجلسن حيث نجلس ويأبين إلا أن يأخذن معنا في الحديث، تقول إحداهن وكانت امرأة تختصم على وجهها أواخر الشباب وأوائل الشيخوخة، ويحتفظ صوتها كما تحتفظ حركاتها بنشاط فيه عذوبه مغرية وميل إلى الفكاهة ظاهر: ما رأيت كاليوم نسوة يستغنين بالأعين والآذان عن الأيدي والأفواه وعن الألسنة والحلوق والأجواف.
ها أنتن أولاء بيننا منذ أمس، وما سمعنا لكن صوتا ولا عرفنا من أمركن شيئا، وها أنتن أولاء تستدرن معنا حول الطعام فلا تكدن تمددن إليه يدا ولا تكدن تصبن منه حظا، كأنما يغذيكن النظر إلى الطاعمات وهن يلتقمن ويلتهمن ويزدردن، وكأنما يرضي حاجتكن إلى الحديث الاستماع للمتحدثات! ثم أرسلت ضحكة سمعها من غير شك أبعد من في الدار مكانا، وسمعها من غير شك من كان خارج الدار، وانتشر معها في الجو استخفاف واستهتار ودعابة ودعاء إلى المجون، حتى إذا فرغت من ضحكتها وجرت الهواء إلى جوفها جرا هو أشبه بالشهيق المثير قالت: أهذا شأنكن بالقياس إلى كل ما تحتاج إليه النساء من لذة وراحة ورضا؟ إنكن إذن لبائسات.
قالت هذا ثم التفتت إلى أمنا فألقت عليها نظرة قوية تريد أن تثيرها إلى الحديث وتكرهها على الجواب، ولكن أمنا لم تنطق بحرف ولم تعرف كيف تلقى هذا السيل المنهمر من اللفظ، وإنما انعقد لسانها انعقادا، وظهر على وجهها اضطراب شديد، ولم تثبت عيناها لعيني هذه المرأة الجريئة اللعوب فغضتهما، وأطرقت برأسها إلى الأرض كأنها الطفل الصغير يلح عليه الكبار في السؤال عن بعض أمره فيمنعه الحياء من أن يجيب.
هنالك التفتت هذه المرأة إلي وقالت: هذه أمك صامتة لا تقول، وهذه أختك واجمة لا أمل في أن تفهم ولا في أن تجيب، فتكلمي أنت فإني أرى في عينيك جرأة وعلى وجهك شيئا يشبه القحة، وما أظن أن في عينيك ملحا ...! قولي من أنتن ومن أين تقبلن؟ وما خطبكن؟ وما إعراضكن عن الطعام؟ وما إيثاركن للصمت؟ قلت ولم أستطع أن أدفع الضحك عن نفسي أمام هذا الهجوم المفاجئ الغريب، وأمام إغراق هاتين المرأتين الأخريين في الضحك، وإغراق أمنا في الصمت، وإغراق أختي في الوجوم: وأنت من تكونين ومن أين تقبلين؟ وما أنت وسؤالك إيانا وإلحاحك علينا؟
قالت مسرعة تتحدث إلى صاحبتيها: ألم أقل لكما إنها «قارحة» ليس في عينيها ملح، وإنها هي التي ستستمع لي وترد علي! ثم التفتت إلي وقالت: تحقيق ... أتسمعين؟ تحقيق ... أنا مكلفة أن أخضعك له، ستعرفين من أنا، وستعلمين أني تعودت التحقيق مع النساء ومع الرجال أحيانا والإلحاح في السؤال على أولئك وهؤلاء ... ثم أرسلت ضحكتها ورجعت شهيقها، وسألتني ملحة: من نكون ومن أين نقبل؟!
وما زالت هذه المرأة تداعبنا وتلاعبنا عنيفة حينا ولينة حينا آخر، جادة حينا وهازلة في أكثر الأحيان، وصاحبتاها تعينانها على بعض ما تريد من ذلك، حتى أنسنا إليهن وتحدثنا معهن شطرا من الضحى، وعرفت من أمرهن ما رغبني في ألا تنقطع الصلة بيني وبينهن ما أقمنا في هذه الدار، وكن جميعا من أهل المدينة التي أقبلنا منها، قد بلغن هذه القرية معا قبل أن نبلغها نحن بساعات، أقبلن راكبات وأقبلنا نحن سعيا على أقدامنا، فأما هذه المحققة التي كانت تسأل وتلح في السؤال، وتمازح وتغلو في المزاح، فكانت امرأة عظيمة الخطر، عرفت من أمرها فيما بعد ما كنت أجهل، وتبينت أن اسمها كان شائعا ذائعا على جميع الألسنة وفي جميع الأنحاء لا في المدينة وحدها بل في كثير مما يحيط بها من القرى والعزب والضياع.
كان اسمها «زنوبة» وكان تاريخها حافلا بالخطوب والأحداث، كان شبابها مغامرة كله وفتنة لنفسها ولكثير من الناس، كانت تجيد الرقص وتفتن به شباب المدينة، وتفتن هؤلاء الشباب الذين كانوا يفدون على المدينة في فصل الشتاء ليشتغلوا في معمل السكر، وكانت تفيد من فصل الشتاء لهوا كثيرا ومالا كثيرا وصوتا بعيدا، حتى إذا تولى عنها الشباب شيئا وأخذت تدنو من الكهولة قليلا قليلا آثرت ظاهرا من القصد، وتكلفت شيئا من الاعتدال، وأسدلت على مجونها ودعابتها ستارا رقيقا تستطيع بعض الأبصار أن تنفذ إلى ما وراءه فتدل أصحابها على ما يبتغون.
ثم اتصلت بالشرطة ورؤسائها في المدينة، وكانت وسيلتها إلى هذا الاتصال معرفتها للشبان، ومخالطتها للرجال، وانسلالها إلى بعض الدور واستماعها لكثير مما يلقى من الحديث، وعلمها بكثير مما يقع من الحوادث ويلم من الخطوب، فكانت عينا من عيون الشرطة تنفذ إلى كثير جدا مما لا تنفذ إليه عيون الرجال، وكانت تفيد من ذلك مالا، وتكسب من ذلك هيبة، فكان الناس يخافونها، ويتلطفون لها، وكانت الشرطة تستعين بها استعانة خاصة خصبة حين يصرع صريع بالليل، ويبحث المأمور وأعوانه عن القاتل فلا يظفرون به، هنالك كانت تنقل إليهم ما تسمع من الأحاديث في بعض أندية الشباب وفي داخل كثير من البيوت، وحين يعتدي اللصوص على دار من الدور ثم تعمى آثارهم وأخبارهم على الشرطة، وكانت أنفع ما تكون للشرطة وأقدر ما تكون على إعانتها حين يهاجم الطاعون أو الكوليرا أو أي وباء من هذه الأوبئة أهل المدينة وما حولها من القرى، وحين تريد الحكومة أن تستكشف المرضى وتعزلهم في تلك الخيام التي كان يكرهها الناس أشد الكره ويفرون منها أكثر مما يفرون من الموت.
هنالك كنت ترى «زنوبة» حركة متصلة كأنها النحلة، لا تستقر ولا تهدأ ولا تعرف السكون والاطمئنان، هي في كل شارع وفي كل حارة وفي كل زقاق وفي كل بيت، ونقالة الصحة من ورائها تجوب الشوارع والأزقة والحارات وتختطف المرضى من بيوتهم اختطافا، وفي تلك الأوقات كان الناس يبغضون زنوبة أشد البغض، ولكنهم كانوا يضطرون إلى لقائها واحتمالها، يبسمون لها ويلعنون الوباء لأنه لم يمسسها ولم يحملها على هذه النقالة ولم يضطرها إلى هذه الخيم التي تضطر إليها الناس.
Unknown page