وعلى هذا حكاية أحمد بن واصل قال لما كلفت عباسة بنت المهدي بجعفر بعد أن زوجه بها الرشيد وشرط عليه أن لا يقربها واشتد وجدها به وعشقها له ولم يطاوعها على ما أحبت وخاف على نفسه من الرشيد أن يظهر أمرها فكتبت له.
عزمت على قلبي أن يكتم الهوى ... فصاح ونادى إنني غير فاعل
فإن لم تصلني بحت بالسر عنوة ... وإن عنقتني في هواك عواذلي
وإن كان موت لا أموت بغصتي ... وأقررت قبل الموت أنك قاتلي
فنالت منه ما أرادت وهل حصل لها ذلك إلا بإفشاء سرها وشكوى ضرها.
وقال ابن شاذان الكاتب: قالت لي عريب جارية المأمون كنت مع الواثق وهو يطوف على حجر جواريه عند خروجه إلى الأنبار متنزهًا فدخل على فريدة جاريته وكان يحبها جدًا وكان أيضًا يهوي وصيفة لها ولم يكن يعلم ذلك غيري فلما رأته عندمولاتها دخلت خزانتها وقامت على رأسها وعليها عصابة مكتوب عليها بالذهب هذان البيتان:
عينيّ تبكي حذر البين ... ما أسخن الفرقة للعين
لم أر في الحب ولوعاته ... أوجع من فرقة إلغين
فقال لي الواثق فهمت يا عريب فقلت: نعم يا سيدي فكتب على الأرض بقضيب في يده:
ظهر الهوى وتهتكت أستاره ... والحب خير سبيله إظهاره
فاعص العوازل في هواك مجاهرا ... فألذ عيش المستهام جهاره
فحفظت الأبيات وتضاحكا ففطنت فريدة فقالت: يا سيدي علمت ما أنتما فيه فأمنن على أمتك بقبولها فقال الواثق قد فعلت خديها إليك يا عريب فأخذت بيدها فما ملك نفسه حتى انصرف من خلفي مسرعًا فخلا بها وأمرني بألف دينار.
ومنهم من لا يجري ذكر العشق على لسانه البتة ويسكت حتى كان به السكتة ولم أر في ذلك مما يتنافس فيه المتنافس أحسن من قول ابن قلاقس:
كتمت الهوى عند العواذل ظنة ... عليهم بمن أصبو إليه وأهواه
ولو قلت أني عاشق فطفوا به ... لعلمهم أن ليس يعشق إلا هو
ومنهم من يبوء بإثمه ... ويرى التصريح باسمه
فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر وقال ابراهيم بن عبد الله:
رأيت على خد جارية ... مكتوبًا بالغالية
كل يوم أذوب من ألم الشوق ... وقلبي من الصدود قريح
لم أجد خلوة إليك فاشكو ... ما بقلبي لعله يستريح
ويح قلبي كأنه لحد قبر ... ضم أعضاء ميت فيه روح
وفي البيت الثاني من هذه الأبيات تنبيه على إفشاء السر إلى الحبيب لا يكون إلا خلوة فينبغي أن لا يعلم به خلًا ولا صديقًا ما وجد إلى ذكل طريقًا كما قيل:
يا موقد النار إلهابًا على كبدي ... إليك أشكو الذي بي لا إلى أحد
إليك أشكو الذي بي من هواك فقد ... طلبت غيرك للشكوى فلم أجد
وقال الأحوص:
لعمرك ما استودعت سري وسرها ... سوانا حذارًا أن تضيع السرائر
ومن ظريف ما مر بي في هذا الباب أن بعض العشاق أنشد يومًا محبوبته قول الشاعر:
سري وسريك لم يشعر به أحد ... إلا الإله ولا أنت ثم أنا
فقالت له لا تنسى القوادة فإنها لا بد أن تدري بسرنا وتطلع على أمرنا.
ومن أحسن ما سمعته في ذم مفشي السر قول الحسين بن بشر.
لحى الله امرأً أوعاك سرًا ... لتكتمه وفض الله فاه
فإنك بالذي استوعبت منه ... أنم من الزجاج بما حواه
قلت وما يبعد أن يكون المتصف بهذه الصفة من ذرية القائل:
وما أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي
فإن قليل العقل من بات ليله ... تقلبه الاسرار جنبًا على جنب
وأين هذا من قول القائل:
وقائلة ما بال جسمك لا يرى ... سقيمًا وأجسام المحبين تسقم
فقلت لها قلبي بحبك لم يبح ... لجسمي فجسمي بالهوى ليس يعلم
ويحكى أن سكينة بنت الحسين بن علي ﵃ مرت في جواريها بعروة بن أذينة وهو يغني فقالت لجواريها: من الشيخ. فقلن: عروة. فمات نحوه. فقالت: يا أبا تمام أنك تزعم لم أنك تعشق قط كيف وأنت تقول: قالت: وابثثتها سري فبحت به.
1 / 36