الباب الثاني
ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء
أقول هذا باب عقدناه لذكر أحسن الملوك طباعًا وأطولهم باعًا وأطيبهم عيشًا وأكثرهم طيشًا وأرقهم شعرًا وأدقهم فكرًا وأقربهم مرجوعًا وأكثرهم بالحبيب ولوعًا أذهم في الحقيقة أولى الناس بذلك وأحقهم بالنوم على تلك الأرائك وذلك بحسب ما سولته لهم نفوسهم وزينه لهم جليسهم كما قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى
إذا كنت في القوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى
فمنهم من قنع من محبوبه بالنظر ... حتى مات كمدًا ولحق مثل نور الدين
الشهيد بالشهدا
وستأتي حكايته في باب العفاف إن شاء الله تعالى ومنهم من أصبح دونه في العفاف وأقام سالف محبوبه مقام السلاف ومنهم من خلع العذار واحتج بقول الشعر في العقار:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فجمع ما بين ذات العقود وابنة العنقود ولكن مع صيانة ورجوع إلى ديانه فهو وإن طال به المجلس اختصر وإن جنى فيه على محبوبه اعتذر كما قيل:
إن أكن قد جنيت في السكر ذنبًا ... فاعف عني يا راحة الأرواح
أي عقل يبقى هناك لمثلي ... بين سكر الهوى وسكر الراح
ومنهم من نال بالراح اللذة المحظورة وأخرج بها وجنة الحبيب من صورة إلى صورة فجارى النديم في الجريال وسما إلى الحبيب سمو حباب الماء حالًا على حال فأفضى به ذلك إلى هلكه وفساد ملكه كما اتفق للأمين بن الرشيد وغيره قال الربيع: قعد الأمين يومًا للناس وعليه طيلسان أزرق وتحته لبد أبيض فوقع في ثمانمائة قصة فوالله لقد أصاب وما أخطأ وأسرع فما أبطأ ثم قال يا ربيع أتراني لا أحسن التدبير والسياسة ولكن وجدت شم الآس وشرب الكاس والاستلقاء من غير نعاس أشهى إلى مقابلة الناس وكذلك خلع قبله الوليد بن يزيد وبعده المتوكل وغيرهم من الخلفاء والأمراء ممن آثر راحة النفس على تعب السياسة والذي آراه إطلاق ما ذهبوا إليه بالصريح ومفارقة الجميع على وجه مليح كما قيل:
لو رأى وجه حبيب عاذلي ... ولتفارقنا على وجه مليح
وما أحسن قول أبي الفتح البستي إذا غدا ملك باللهو مشتغلًا: فاحكم على ملكه بالويل والحرب أما ترى الشمس في الميزان هابطة لما غدا وهو برج اللهو والطرب ومن هنا نشرع في ذكر من ذل لمحبوبه من الملوك فصبح مع كونه مالكًا له كالملوك وهم في ذلك لشدة البأس على خلاف ما عليه الناس وهذا وذلك لأن العشق وأصحابه طبقات فمنهم من لا يطيب له العشق إلا بالذل هو الغالب على العشاق الصادقين في المحبة كما قال الشيخ شرف الدين بن الفارض:
ولو عز فيها الحب ما لذلي الهوى ... ولم يك لولا الذل في الحبّ عزتي
كما قيل:
تذلل لمن تهوى لتكسب عزة ... فكم عزة قدنا له المرء بالذل
ومنهم من يرى توحيد المحبوب وعدم الشريك كما قيل:
ليس في القلب موضع لحبيبين ... ولا أحدث الأمر اثنان
فكما العقل واحد ليس بدري ... خالقًا غير واحد رحمن
فكذا القلب واحد ليس يهوى ... غير فرد مباعدًا ومدان
وكذا الدين واحد مستقيم ... وكفور من عنده دينان
هو في شرعة المودة ذو شر ... بعيد من صحة الإيمان
فمن كان على خلاف هذا ممن يرى الشريك في المحبة كالرشيد وغيره كما يأتي بيانه في بابه لم يكن محبًا حقيقة وهذا الغالب عل الملوك لكثرة ما لديهم واختلاف الشكل عليهم كما قيل:
تنقل فلذات الهوى في التنقل ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل
فالملوك ليسوا كغيرهم لقدرتهم على من يحبونه بالنقود النضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة نعم قد يعشق الملك العظيم فلا يذهب به عشقه إلى ترك تدبير ملكه وإنما أكثر ما يظهر من أمر الملوك أن يضعوا محبوبهم في مقام مالكهم وهم مالكوه كما قال الحكم بن هشان ملك الأندلس ظل من فرط حبه مملوكًا:
لقد كان قبل ذاك مليكا ... تركته جآذر القصر صبا
مستهامًا على الصعيد تريكا ... يجعل الخد واضعًا فوق ترب
1 / 19