206

Dirāsāt ʿan Muqaddimat Ibn Khaldūn

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

Genres

ومع كل ذلك يرى ابن خلدون اختلافا جوهريا بين طريقة تمحيص الأخبار الشرعية، وبين طريقة تمحيص الأخبار التاريخية، ويقول: إذا كان «التجريح والتعديل» يكفي للحكم على صحة الأخبار الشرعية، فإنه لا يكفي للقول بصحة الأخبار التاريخية بوجه من الوجوه.

وذلك لأن الأحكام التي تترتب على الأخبار الشرعية إنما هي «أحكام إنشائية»، تعين واجبات المكلفين، وتأمرهم بالعمل أو الترك، وبتعبير آخر: إنها تحتم عليهم القيام ببعض الأعمال، والتجنب لبعض الأفعال، و«الظن بصحة الخبر» وحده يكفي لتحتيم العمل بمقتضياته - حسب القواعد الشرعية - من غير حاجة إلى حصول اليقين في أمره؛ ولهذا السبب يقولون إن «التجريح والتعديل» وحده يكفي لتوليد الظن بصحة الخبر ولتحتيم العمل بمقتضاه.

وأما الأحكام التي تنطوي عليها الأخبار التاريخية فهي «أحكام خبرية»

1

محضة، لا تأمر شيئا، ولا تمس الأفعال والتروك بشيء، إنها لا ترمي إلى غاية غير «تقرير الواقع»؛ ولهذا السبب كان من الضروري أن ينظر على الدوام في موافقتها أو عدم موافقتها للواقعات. ولا حاجة للبيان أن ذلك لا يمكن أن يتم بالتجريح والتعديل وحده - أي بالتأكد من عدالة المخبرين ونباهتهم وحدها - بل يحتاج إلى نظر أوسع، وبحث أعمق من ذلك.

ابن خلدون يقرر رأيه في كل ذلك في مدخل الكتاب الأول، حيث يقول: «إنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية؛ لأن معظمها تكاليف إنشائية، أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط.» «وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة (يعني المطابقة للواقعات)؛ ولذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه.» «إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة» (ص37).

إن رأي ابن خلدون في هذه القضية يتضح لنا بصراحة أعظم من بعض الفقرات التي كتبها في الفصل الذي يقرر «أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها» (ص542).

يميز ابن خلدون في هذا الفصل بين «ما في الذهن» وبين «ما في الخارج»، ويقول إن الأحكام الشرعية أحكام ذهنية يطلب العمل بموجبها، والعمل إنما هو «حدوث الشيء في الخارج» وفقا لمقتضيات تلك الأحكام. يتبين من ذلك أن الأحكام الشرعية لا تتقيد بما هو «موجود في الخارج»، بل بعكس ذلك تتطلب «مطابقة ما في الخارج لها»، خلافا لما هو الحال في العلوم العقلية التي لا تعتبر أحكامها صحيحة ما لم تكن «مطابقة لما في الخارج».

ولهذا السبب قال ابن خلدون إن التجريح والتعديل وحده يكفي لتمحيص الأخبار الشرعية، غير أنه لا يكفي لتمحيص الأخبار التاريخية. (4)

يفهم من التفاصيل الآنفة الذكر أن أول ما يجب عمله على المؤرخ لتمحيص خبر من الأخبار هو - في رأي ابن خلدون - النظر فيما إذا كان الخبر المذكور ممكنا في حد ذاته أو مستحيلا. وأما البت في هذا الأمر فمما يتطلب معرفة طبائع العمران. يقول ابن خلدون في هذا الصدد: «تمحيصه (أي تمحيص الخبر) إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار، وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة، حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلا، فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح» (ص37).

Unknown page