207

Dirāsāt ʿan Muqaddimat Ibn Khaldūn

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

Genres

إن الإمكان الذي يشير إليه ابن خلدون في هذه الأبحاث لم يكن الإمكان العقلي المطلق، بل هو الإمكان العادي الطبيعي، كما يصرح بذلك في موضع آخر من المقدمة: «فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنا على نفسه ، ومميزا بين طبيعة الممكن والمستحيل بصريح عقله ومستقيم فطرته، فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه.» «وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شيء، فلا يفرض حدا بين الواقعات، وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة للشيء» (ص182). (وبتعبير آخر: بحسب طبيعة الأشياء، أو بالأحرى بحسب طبيعة العمران.) «فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه» (ص37-38). (5)

لا يكتفي ابن خلدون بسرد هذه القواعد العامة، بل يطبقها على بعض الأخبار، ويستعرض سلسلة من الروايات والأخبار المتنوعة عن الأزمنة الماضية (ص10-27، و36-37).

5

وأما تعليل الوقائع - بعد التأكد من صحتها - والبحث في «أسباب حدوثها وتزاحمها وتعاقبها»، فابن خلدون يعتبر ذلك من أهم واجبات المؤرخين، ويؤكد ضرورتها عدة مرات، غير أنه لا يفكر في تدوين قواعد هذا التعليل، ولا يحاول تعيين طرقه ومناهجه، ومع هذا فإنه يقدم على تعليلات كثيرة في معظم فصول المقدمة، وإذا استعرضنا التعليلات المسطورة في تلك الفصول؛ وجدنا أنها تسير - في الأكثر - على طريقة استقرائية؛ إنها تعتمد على استقراء الوقائع والحادثات، وتشمل استقراءاتها هذه إلى ما يحدث في الحال الحاضر، أو ما حدث في الماضي القريب من جهة، وإلى ما حدث في الأزمنة الغابرة من جهة أخرى.

إن الدراسات التالية ستعطي نماذج عديدة على التعليلات المذكورة، وستسعى إلى تعيين قيم التعليلات من الوجهة العلمية.

طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم

يقرر ابن خلدون في المقدمة الأولى من الباب الأول ثلاثة مبادئ أساسية: (أ)

ضرورة الاجتماع للبشر، واستحالة معيشتهم منفردين. (ب)

ضرورة وجود الوازع للبشر، وامتناع بقائهم بلا وازع يدفع عدوان بعضهم عن بعض. (ج)

عدم ضرورة وجود الشرع للبشر، وإمكان دفع العدوان بسطوة الملك ولو لم يكن شرع.

Unknown page