Dawla Cuthmaniyya
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genres
أما الأمن فالحكومة الدستورية ضمين استتبابه فيما يلي من الزمن، وأما السقي فمن العبث أن نبحث في سهولته في هذا العصر - عصر العلم والاختراع - مع توفر الأدلة الأثرية والتاريخية على إحكام أصوله وطرقه في تلك البلاد منذ القدم. وهذه آثار النهروان وسدوده وترعه تشير إشارة واضحة إلى أنه كانت هناك مستودعات للمياه شبيهة بخزانات مصر تعاقب على إنشائها أهل بابل وأشور والفرس، ولم يغفلها المتقدمون من الخلفاء العباسيين حتى روي عن بعضهم أنه عجز عن الوقوع على مائة جريب خرب غامر في نقطة واحدة، وأننا لا نستغرب أن تكون الترعة العظيمة البادية آثارها في صحراء قاحلة من السماوة إلى ما بين البصرة والزبير إلى خليج فارس والمعروفة الآن بنهر عمر من أعمال بعض أولئك الخلفاء.
ولكنه منذ بدأ الضعف في الدولة العباسية في أواسط عمرها أخذت ثروة البلاد في التدني بأسرع مما ترقت، وظل الخراب يتوالى والسدود تقوض والترع تجف وتفيض المياه في المستنقعات أو تذهب هدرا إلى البحر ويفر الفلاح وتبور الأرض، إلى أن بات المزروع منها الآن نقطة في بحر.
ولقد كان بعض الولاة العثمانيين يفكرون حينا بعد حين ببعض الإصلاح، ولكنهم لا يتجاوزون التفكير إلى التدبير لاشتغالهم بالفتن الداخلية أو انصرافهم إلى مطمع خاص. وأول من فكر منهم فكرا حقيقا بالإصلاح كان رشيد باشا المعروف بالكوزلكلي، ولكن المنية فاجأته سنة 1857 ولم ينجز عملا.
وأما المصلح الحقيقي الذي وضع الخطط اللازمة وشرع في العمل فإنما كان مدحت باشا، ولو طالت مدة ولايته عشر سنين لغادر العراق جنة غناء؛ فإن المهندسين الأوروبيين الذين استقدمهم خاصة لوضع مشروعات الإصلاح وضعوا التقارير الوافية عن كل وسائل السقي وتجاوزوا إلى ما وراء ذلك بوضع الخرائط لكل الشئون الزراعية. وإذ كان ذا همة شماء لا يكاد يفكر حتى يشرع أخذ حالا مع كثرة الشواغل في شق الترع وتسهيل طرق الاتصال - كما أسلفنا في باب «رجل الدولة» - ففاجأه أمر الرجوع إلى الأستانة، وساد من بعده حكم الاستبداد فلم يقم بعده من الولاة من يصلح لإنجاز تلك الأعمال الخطيرة حتى ولو أراد.
أما الأفراد من أبناء الدولة والأجانب من المهندسين ووكلاء الشركات الذين فكروا باستحياء طرق السقي على مناهج مختلفة؛ فكثيرون. وقد كان كاتب هذه السطور فيما نعلم أول من رفع في العهد الأخير تقريرا مسببا إلى نظارة النافعة بهذا الشأن وطلب التصريح بإرواء بغداد وضواحيها بالرافعات البخارية، وذلك سنة 1892، وسعدي بك منفي قبرص محاسبه هي النافعة يومئذ كان من أعظم الموازرين، ثم فكر بعض الأجانب بالاتساع في العمل إلي ما يماثل أعمال الري في مصر. وكان السر وليم وليكوكس الإنكليزي أطولهم باعا وأكثرهم خبرة واقتدارا، وقد جرت لنا معه مباحثات تحققنا في أثنائها الخبر بالخبر، فصمم على الشروع في العمل إذا أسعفه الحظ بتأليف شركة ونيل الامتياز؛ فشخص من مصر إلى إنكلترا، فالأستانة، ومنها إلى العراق، ورسم - بعد عودته خطة من أكمل الخطط تشف عن علم واسع واختبار طويل، وأودع ذلك في كتاب دعاه «ري العراق» استتم فيه البحث من كل وجوهه. ولهذا أحببنا الإشارة إليه في هذا الموضع؛ لأنه يحوي من البحث العلمي والعملي ما يشوق الاطلاع على مثله رجال الدستور.
أما وسائل السقي المستعملة الآن فمع أنها من أقدم طرز، فقد كان يرجى منها ثروة عظيمة لو لم تكن منحصرة في دائرة ضيقة، وفي أكثر البلاد لا تكاد الأراضي المزروعة تتجاوز مجاري الأنهر، ومع هذا فإنه يفيض من حاصلات البلاد ما يشحن بمئات السفن إلى الهند وسواحل البحر الأحمر وأوروبا من التمر والحنطة والشعير والسمسم والهرطمان والأرز وغير ذلك مما اعتاد الأهالي زرعه، وإن كل ما زرعه الأفراد أيضا على سبيل التجربة أسفر عن أحسن النتائج؛ فقد زرع فيها القطن المصري وزرعت النيلة والتنباك والتبغ وقصب السكر، وكان جميعه أحسن أصنافه في أجود تربة في بلاده وأفلحت أيضا تربية دود الحرير على التوت الكثير المزروع فاكهة وخشبا وطعاما للماشية.
ولقد كان من الواجب مع هذا الخصب الغريب أن لا يهمل في تلك البقاع شبر بورا، ولكن الواقع بخلاف ذلك فإذا صعدت في شط العرب من مصبه عند الفاو إلى البصرة ومنها إلى القرنة عند ملتقى الفرات ودجلة على مسافة تقرب من المئتي كيلو متر ورأيت جنائن النخيل الباسقة متراصة على أكثر تلك المسافة من على كلتا الضفتين، ولم تصعد إلى دكة قبة الربان على ظهر الباخرة لترى ما وراء تلك الرياض، خيل لك أنك في بلاد عامرة غاصة بالسكان، ولكن لو وقفت بك الباخرة على أحد الصوبين ونزلت منها متوغلا بين تلك الجنائن؛ علمت أن نظرك قد خدعك، وأن العمار في أكثر تلك الأرض لا يتجاوز الجرف إلى أبعد من ميل إلى ميلين، وأنك في بعض المواضع ترى الأرض البور متصلة حتى إلى ثغر النهر.
وما أعظم ما تكون دهشتك إذا علمت بعد ذلك أن جميع تلك الأرض في غنى عن كل وسائل العلم والاختراع لخزن الماء لإروائها إذ يتناوب المد والجزر مرتين كل يوم وليلة في خليج العجم، فيقف ساعة المد في وجه مجرى المياه العذبة؛ فتنقلب على عقبها مرتفعة فتملأ الترع والأنهر المحفورة بين تلك الأرض فترويها بلا نفقة ولا عناء على طول تلك المسافة إلى القرنة، ولا تقف هنالك بل تتجاوز شط العرب إلى مجرى كل من الفرات ودجلة على مسافة أميال.
فالأرض التي تتناول الماء بتلك السهولة لا يبقى على صاحبها إلا أن يفتح لها مجرى تسير فيه مهما طال واتسع، ومع ذلك فهي على ما ذكرنا من ضيق النطاق وذهاب فائدة كل ما وراءه.
فإذا كانت تلك حالة الأرض الغنية عن يد الصناعة لسقيها والمحيطة بمقر ولاية تضمن حفظ الأمن فيها، فما تكون حالة ما سواها مما يحتاج إلى خزن الماء أو مما توارى عن نظر الحكومة في الأطراف؟
Unknown page