Dawla Cuthmaniyya
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genres
وإن البصرة مع قلة ما يزرع من أرضها الفسيحة تعد بالنسبة إلى عدد سكانها من أعظم البلاد ثروة وأكثرها حاصلا، فما يكون من شأن تلك الثروة لو امتدت زراعتها إلى مئات ألوف الأجربة التي تكنفها من كل جانب.
ولكنك إذا تجاوزت ملتقى النهرين في القرنة ومضيت صاعدا في مجرى أيهما شئت غضضت طرفك رهبة مما ينالك من وحشة تلك القفار التي كانت في غابر الزمن جنة الأرض، وإذا بدا لك بشر في غير المدن والقرى القليلة القائمة على مسافات شاسعة بعض من بعض هالك ما رأيت من مظاهر الفقر والأجسام العارية.
تصعد في دجلة من القرنة إلى بغداد في مسافة نحو أربعمائة وخمسين ميلا، وتصعد في مثل تلك المسافة إلى ما فوق الموصل، فما خلا ثلاثة أو أربعة بلدان صغيرة كالعمارة وكوت الإمارة وسامرا، لا تكاد ترى إلا قرية حقيرة أو نزلا من زراع القبائل ينزلون اليوم فيرحلون غدا.
وتصعد كذلك من القرنة في الفرات إلى أرض المنتفق والحلة وهيت وعانة حتى دير الزور ومسكنة قرب حلب؛ فيحصل لك مثل ذلك الانقباض وإن كانت مجاري الفرات أكثر ريعا من مجاري أخيه دجلة.
وقل مثل ذلك في مجرى ذيالة المنحدر من جبال العجم إلى بلد روز وخراسان حتى الخالص إلى مصبه في المخلاط بدجلة.
وإذا رأيت نهرا أو جدولا متشعبا من أحد هذه الأنهر سواء كان مسربا شقته يد الطبيعة أو ترعة شقتها يد البشر، وسرك ما علمت من نفعها في إرواء الأرض هالك من جهة أخرى ما تعلم بعد ذلك عما يتأتى عنها من الضرر أيام الفيضان لعدم إحكام السدود أو عدم وجودها؛ فتنتشر منبسطة على الأراضي المحيطة بها فتلبث أهوارا تفشو منها الأوبئة فتفني السكان، أو تبيت معاقل يتحصن بها شذاذ العشائر البادية فيبيتون بمأمن على سلبهم وعبثهم.
ولو حسبت الخسائر التي تتأتى عن طغيان المياه حتى في نفس بغداد سنة بعد أخرى، لتجمع لديك منها وحدها رأس مال يكفي لإنشاء خزانات تضاهي خزانات مصر عظمة ومتانة.
ولقد حاول بعض الولاة، والحق يقال، تلافي شرور ذلك البلاء غير مرة وأرصدوا المبالغ الوافرة وأنشئوا السدود حيث بلغ الضرر أشده؛ فكانت النتيجة أن الوكلاء والعمال يقتسمون ما بينهم ذلك المال إلا قليلا منه يقيمون به سدا من طين لا يلبث أن ينكسر من نفسه أو تقضه العشائر التي كانت تتخذه ملجأ ومأوى. ومع ذلك فإن جميع العشائر التي ألفت الزراعة لا تأنف أيان دعت الحاجة إلى إقامة تلك السدود عن التطوع للعمل فيه إما عن طيبة خاطر، وإما امتثالا لأوامر شيوخها وحسبها من الحكومة تشويقا وترغيبا أن تتعهد بإعطائها قسما مما يجف من تلك الأهوار بعد انحسار الماء عنها.
وقد كان مدحت باشا رسم لذلك خطة اضطر إلى مغادرة بغداد قبل إنفاذها، فنشط إليها وإلى بغداد رديف باشا بعد رحيل مدحت عنها بسنة، واتفق مع ناصر باشا السعدون شيخ عشائر المنتفق على إنشاء سد الجزائر العظيم، على أن يقوم ناصر بجميع نفقاته ويجمع ألوف العمال من عشائره، ولقاء ذلك يعطي قسما عظيما من الأراضي التي تنحسر عنها المياه، فهب ناصر للعمل واستعان خلا عشائره بأهل البصرة فانضم إليه قاسم باشا الزهير ببضعة آلاف من عربانها، ولم تمض بضعة أشهر حتى تم إنشاء ذلك السد، وهو وحده لو بقي قائما لكان ينبوع رزق وخير لا ينضب؛ إذ كان يصلح هواء ولاية البصرة بجفاف تلك الأهوار وتغزر مياه الفرات بارتدادها إلى مجراها، وتعمر كل البلاد الممتدة من سوق الشيوخ إلى البصرة على مسافة أيام.
ولكنه من جهة كان غير محكم البناء وغير قائم على أصول الصناعة، ومن جهة أخرى رأى ناصر نكولا من الحكومة عن إنفاذ ما تعهدت له به، ومن جهة ثالثة ضاقت المسالك بأوجه قبيلة المعدان التي كانت تنزل بجواميسها تلك الأهوار، فما مضت مدة وجيزة حتى تقوضت أركان ذلك السد فتفجرت المياه وانتشرت فغطت تلك السهول فغادرتها كما كانت ميدان بلاء ووباء.
Unknown page