وتصرفُّه. فلو كانت هي العقل، لكان شرطًا لنفسه؛ وهو محالٌ. فتعيَّن أن يكون عبارةً عن علمٍ كلّى بديهي.
وأُورِد على هذا الاستدلال أنّ التغاير لا يقتضي جوازَ الانفكاك؛ بدليل [أنّ] الجوهر والعرَض، والعلّة والمعلول، متلازمان ولا ينفكّان. ولئن سُلِّم أنّ التغاير يقتضي الانفكاكَ، لكنّ العقل قد ينفكُّ عن العلم. كالنائم واليقظان الذي لا يَستحضر شيئًا من وجوب الواجبات واستحالة المستحيلات؛ فِإنّ العقل فيهما موجودٌ، والعلم مفقودٌ.
فدلّ ذلك على أنّ العقل غريزةٌ تلزمها هذه العلومُ عند سلامة الحواسّ. كما قال المحاسبيّ: "إِنّه غريرزةٌ طبيعيةٌ يتوصّل بها إلى المعرفة، لا أنّه نفس تلك العلوم".
قلتُ: وهذا سؤالٌ قويٌ لا جواب عنه. وممّا يؤكِّده أنّ العقل إِذا فسد، تَسبَّب الأطبّاءُ إِلى إِصلاحه بالعلاج. فمن ذلك دليلان. أحدهما أنّ موضوع علم الطب إِنما هو الأجسام الطبيعيّة وما اشتملَت عليه من الطبيعيات؛ والعلوم ليست منها. وربما قوّى هذا قولُ الفلاسفة، "إنّه جوهرٌ"؛ لأنّ سلطان الطب على الجواهر أغلبُ منه على الأعراض. الثاني أنّ فساد العلوم إِنم هو بسيانها وذهابها عن القوّة الحافظة، بحيث يتعذّر على العالم استحضارُها. والأطبّاء لا سلطان لهم على تذكير علمٍ منسي، أو ردّ علمٍ ذاهب. وإِنما سلطانهم على القُوى والغرائز، بالتسبّب إِلى إِصلاحها إِذا فسدت فدلّ على أنّ العقل غريزةٌ يحصل بها العلم؛ لا نفس العلم، بل لازمٌ له.
فإِن قال: اللازم يصحّ وجوُده بدون المازوم. فلو كان العقل غريزةً، لازمًا للعلم، لا نفس العلم، لصحّ وجود العقل بدون علمٍ، فكان يوجد عاقلُ لا يعلم شيئًا أصلًا. وهو باطلٌ؛ لأنّ عاقلًا لا يخلو من علمٍ ضروريِّ.
فالجواب بالتزام ذلك. فإِنّ المجنونَ عقلُه قائمٌ به لم يفارقه. وإِنما عليه ما عَرَضَ له من العلّة، فاختفى أثرُه، وهو باقٍ لم يفارِق. إِذ لو فارق، لم يَعُد. وهذا كما يَبطُل تأثيرُ المغناطيش إِذا لُطخ بالثوم، وقوّته الجاذبة باقيةٌ؛ لكن بطل تأثيرُها لغلبةِ المانع والمعارِض.
وكما يَبطُل تأثيرُ الروحِ بالسُكات العارض، والروح باقٍ في البدن لم يفارِق. ولهذا
1 / 72