إِلى تقليد المتّهم الموصوم؛ إِذ العقل يعرض له الأغلاطُ، فينزلّ عن سواء الصراط.
فإِن قيل: "لو اتُهم العقلُ بعد النبوّة في نظره، لاتُهم في ذلك قبلَها في تقرير مقدّماتها؛ فلم يكن به وثوقٌ. ثمّ تزلزلت قواعدُ النبوّات، وكان أهلُها بانين على الماء، أو على متن الهباء".
قلنا: قبلَ النبوّة، لم يكن له معارِضٌ يرجُح عليه. وبعدها، هي أقوى منه. ولا يلزم مِن اتهامِ الشاهدِ مع من يخالفه اتهامه إِذ كان وحده لا مخالف له. وهذا من أصعب أسئلتهم. وجوابه ما ذكرنا. فحاصل هذا المأخذ أنّ الشرع مؤكدٌ عندهم، وعندنا مؤسسٌ. والقاعدة المتّفق عليها أنّه إِذا تعارض التأكيدُ والتأسيسُ، كان التأكيدُ أولى، لأنّه أكثر فائدةً.
وممّا يشبه هذا المأخذَ اختلافُ الأصوليّين فيما إِذا وَرَد حديثان، أحدهما مخالفٌ للأصل، ناقلٌ عن حُكمه، والآخر موافقٌ له مقررٌ لحُكمه. فقال قومٌ: "يُقدَّم المقرِّرُ؛ لأنهما دليلان يعضد أحدُهما الآخر". وقال آخرون: "يُقدَّم الناقلُ؛ لأنّه أفاد فائدة زائدة".
ومن فروع هذا الأصل النزاعُ في تقديم بيِّنةِ الداخل والخارج؛ لأنّ بيّنة الداخل كالحديث المقرّر للأصل؛ لأنها مقوّيةٌ لدلالة اليد. وبيّنة الخارج كالحديث الناقل عن حكم الأصل.
فهذان مأخذان كليّان للمسألة
[المآخذ الجزئيّة]
أمّا الأدلّة الجزئيّة، فلنذكر منها وجوهًا.
أحدها: لو اقتضى العقلُ قُبحَ شيء من الأفعال، لكان قبحه لمّا من الله، أو من العبد.
والأول باطلٌ؛ إِذ لا يقبُح من الله شيء، بإتفاقٍ. وإِن نوزع فيه، فبرهانه في موضعه. والثاني أيضًا باطلٌ؛ لأنّ فِعل العبد إِمّا اضطراري أو اتفاقي؛ ولا قُبح في واحد منهما. وبيان انحصاره في الاضطرار والاتفاق أنّ فِعل العبد إِن صدر منه عند خلقِ الله سبحانه داعى الفعل فيه، صار وقوعُه واجبًا بالضرورة؛ فكان اضطراريًّا. وإِن صدر عند استواء داعي الفعل والترك، وجاز الترجيحُ من غير مُرجِّحٍ، كان ذلك بالاتّفاق؛ فكان اتّفاقيًّا.
1 / 86