وكان المنزل الذي جر إليه الفارس المركيزة لرجل يدعى ديبرا، وكان الرجل غائبا في ذلك الحين ولدى زوجته زائرات مجتمعات، فدخل الفارس والمركيزة يتقاتلان حتى وصلا إلى حيث اجتمع النساء، وكان من بينهن كثير من صاحبات المركيزة، فقمن لهذا المشهد مندهشات غاية الاندهاش يردن أن يخلصنها من يد هذا الوحش الضاري، فردهن الفارس قائلا: إنها أصيبت بالجنون، وكان من منظر المركيزة ما يحمل على تصديق هذا الافتراء، أما هي فأظهرت للقوم صدرها المحروق وشفتيها المسودتين من السم الذي تجرعته، وأخذت تصيح مكذبة دعواه وتعض ساعديها من الألم، وتقول: إنها مسمومة وإنها ستموت، وتلح عليهم بطلب لبن أو ماء ليطفئ اللهيب المتأجج في صدرها، فتقدمت إحدى الحاضرات وهي مدام برونيل زوجة أحد القسوس البروتستنت، فاقتربت من المركيزة ودست في يدها علبة بها لعوق، فتناولت منها المركيزة بعض قطع، وابتلعتها تلو بعضها بينما كان الفارس يلتفت وراءه، وقامت سيدة غيرها فقدمت لها قدحا من الماء، فالتفت الفارس عندما رفعت المركيزة القدح إلى فمها فكسره بين أسنانها، وقطعت إحدى شظايا الزجاج شفتيها؛ فأهاج هذا الفعل النسوة الحاضرات فقمن يردن الانقضاض على الفارس، لكن خشيت المركيزة أن يزدنه جراءة وأملت أن تضع من حدته فطلبت من الحاضرات أن يتركنها معه فتركنها بعد إلحاح ودخلن غرفة مجاورة للتي كن فيها، وكان هذا قصد الفارس.
وما كادت تختلي المركيزة بالفارس حتى ضمت يديها إلى صدرها وجثت أمامه على ركبتيها وقالت بصوت لين تسترحمه: أيها الفارس، بل أيها الأخ العزيز، أما بقي في قلبك ذرة من الشفقة علي، أنا التي كنت أخلص لك الود ولا أزال إلى هذه اللحظة أقدم دمي لآخر قطرة منه لخدمتك، أنت تعلم أني صادقة، فلماذا تعاملني بهذا العداء، وماذا يقول الناس عنك، أخي ما أشقاني إذ عاملتني بهذه القسوة، ومع ذلك فإذا أشفقت علي ووهبتني الحياة فأقسم لك أني أنسى ما مضى ولا أنسى فضلك، بل أعتبرك إلى الأبد مخلصي وصديقي الحميم.
ثم استوت المركيزة فجأة على قدميها صارخة ورفعت يدها إلى صدرها؛ ذلك لأن الفارس اللئيم اغتنم فرصة انشغالها باسترحامه فسل حسامه على غفلة منها وكان الحسام قصيرا كالخنجر فما كادت تتم حديثها حتى طعنها به في صدرها ثم أتبع الطعنة بأخرى في كتفها فمنعتها الترقوة أن تنفذ إلى داخل الجسم فحملت الطعنتين وأخذت تعدو نحو الغرفة التي انسحب إليها النساء صارخة: أغثنني، أغثنني، فقد قتلني.
وفيما هي تجري تمكن الفارس من طعنها بحسامه خمس طعنات في ظهرها، وأراد أن يزيد لولا أن انكسر السلاح في الطعنة الخامسة لشدة الضربة، وبقي طرفه غائرا في كتف المركيزة، فوقعت المركيزة على وجهها فوق الأرض مضرجة بدمائها، اندفعت ودماؤها تسيل من كل صوب حتى غمرت أرض الغرفة.
وظن الفارس أنه قضى عليها، ورأى النساء آتيات لنجدتها فترك الغرفة، ووافى أخاه بباب الدار فوجده مكانه والغدارة بيده، فجره من ساعده، فتوقف الراهب عن المسير، فقال له أخوه: هيا بنا فقد قضي الأمر.
فسار الراهب مع أخيه بضع خطوات، ولكن فتحت نافذة من المنزل، وأطلت منها النسوة يصرخن ويستنجدن؛ إذ نظرن المركيزة تحتضر، فوقف الراهب وأمسك بذراع أخيه قائلا: كيف تقول قضي الأمر أيها الفارس؛ فاستنجاد النسوة دليل على أنها لم تزل حية.
فأجابه الفارس: اذهب وتحقق الأمر بعينيك إن شئت، أما أنا فقد انقضى دوري، قال: صدقت وعلى هذا عزمت.
ثم عاد مسرعا للمنزل ورقي الدرج وهجم على الغرفة التي فيها النسوة، فوجدهن يتعاون على رفع المركيزة إلى الفراش، وهي لضعفها وكثرة ما فقدت من الدماء لا تستطيع القيام، فدفعهن الراهب وتقدم نحو المركيزة، ووضع فم الغدارة على صدرها، ولكن أسرعت مدام برونيل - التي مر بنا ذكرها - فرفعت ماسورة الغدارة عندما أطلق القاتل، فصعد العيار إلى السقف بدل أن يصيب المركيزة، فاغتاظ الراهب وأمسك الغدارة من ماسورتها وضرب بها مدام برونيل على رأسها ضربة كادت تفقدها الرشد فتسقط على الأرض، وأراد أن يثني لولا أن تكاثرت عليه النسوة، ودفعنه خارج المنزل تشيعه اللعنات والشتائم، ثم أغلقن وراءه الباب.
واغتنم القاتلان فرصة الليل فبارحا المدينة سرا، ووصلا إلى أوبيناس على مسير فرسخ من جنج نحو الساعة العاشرة مساء.
وفي أثناء ذلك كانت النسوة مهتمات بالمركيزة، فرفعنها إلى الفراش، وأردن أن يرقدنها، فحال دون ذلك نصل الحسام الغائر في كتفها، وحاولن أن يستخرجنه فلم يفلحن؛ لأنه كان ساكنا في العظم متمكنا فيه؛ فأرشدت المركيزة - على عظم ما بها - مدام برونيل إلى ما يجب عليها عمله، فجلست هذه السيدة فوق السرير وعاون النساء المركيزة على الوقوف بجواره، ثم أمسكت مدام برونيل بقطعة النصل بكلتا يديها واتكأت بركبتيها على ظهر المركيزة ثم جذبت النصل ورفعت المركيزة بقوة؛ فنجحت العملية وتمكنت المسكينة أخيرا من الاضطجاع فوق السرير، وكانت الساعة التاسعة مساء؛ أي مضت عليه ثلاث ساعات، فكانت في عذاب لم يعذبه أحد، من أمر ما مر على مخلوق.
Unknown page