واشتبه الآكلون في الكريمة؛ فاحتفظوا على ما تبقى منها وأرسلوه للتحليل، فقرر الكيماويون اشتماله على جوهر سمي هو الزرنيخ، إلا أنه لاختلاطه باللبن وهو ضده قد فقد جزءا من مفعوله، ولم يحدث إلا نصف التأثير المنتظر منه.
ولم يعقب هذه الحادثة ضرر لأحد؛ فألقوا المسئولية فيها على خادم اتهموه بأنه خلط بين السكر والزرنيخ، ونسي القوم الحادثة أو تظاهروا بنسيانها.
وعاد المركيز عقب هذه الحادثة إلى الإقبال على زوجته والتودد إليها، ولكنها لم تغتر بهذه الظواهر الودية، وعلمت أن للراهب يدا فيها، وقد أصابت الظن، فإن هذا اللئيم أقنع أخاه بوجوب مداراته للمركيزة؛ ليكتسب رضاها طمعا في ميراث جدها الذي آل لها. فأخذ المركيز يتقرب لها متظاهرا بالحب؛ كيلا يخطر ببالها أن تحرر وصية تحرمه فيها من هذا المال.
وقد رأى أهل القصر عند حلول الخريف أن يذهبوا إلى بلدهم جنج؛ ليقضوا فيها هذا الفصل وتاليه، وجنج مدينة صغيرة في إقليم لنجدوك السفلي تابعة لأبرشية مونبلييه، وعلى مسيرة سبعة فراسخ من مدينة مونبلييه، وتسعة عشر فرسخا من مدينة أفينيون.
وكان المركيز بحق الوراثة سيدا لهذه المدينة، وله فيها قصر مشيد؛ فلا غرابة إذا ارتأى أهل القصر أن يقصدوا زيارتها أو الإقامة فيها، إلا أن المركيزة اعتراها انقباض عندما أنبئت بهذا العزم، وحضرت لديها حالا ذكرى تكهن الساحرة، ثم تذكرت شروعهم في سمها حديثا وكيف خاب قصدهم، وتفهت معاذيرهم؛ فازداد بالطبع خوفها وقوي رعبها.
ولم تتهم المركيزة سلفيها مباشرة بهذه الجريمة الأخيرة، إنما كانت واثقة بأن لها منهما عدوين زنيمين، ورأت أن رحيلها لتلك المدينة القصية، وإقامتها في قصر منقطع وسط قوم لا تعرفهم من قبل أمر لا يطمئن له الخاطر، ولا ينشرح له الصدر، لكنها رأت أن امتناعها عن السفر بلا عذر واضح موجب للتهكم عليها والاستخفاف بها، وإذا امتنعت فأي عذر تبديه دون أن تتهم زوجها وسلفيها فيه.
ولما حارت المركيزة في أمرها كتمت سرها في صدرها وسلمت أمرها لله، إلا أنها لم تشأ أن تترك أفينيون قبل أن تحرر الوصية التي طالما فكرت فيها عقب موت جدها، فدعت إليها سرا أحد الموثقين، وأملت عليه أنها توصي لوالدتها مدام ده روسان بمالها من بعدها، وعلى أمها أن توصي به بعدها لمن تختاره من ولدي المركيزة وتفضله على أخيه. وكان للمركيزة إذ ذاك ولدان من زوجها: غلام في السادسة من عمره، وابنة في الخامسة.
ولم تكتف المركيزة بما فعلت لما رسخ في مخيلتها من أن سفرها لن يكون إلا شؤما عليها؛ فدعت سرا في الليل قضاة أفينيون وجمعا من وجهائها، وقررت أمامهم بصوت جهوري أنها حررت بالأمس وصية، وطلبت منهم أن يعتبروا هذه الوصية آخر وصاياها، حيث حررتها وهي بكامل الصفات المطلوبة شرعا، بحيث إذا ماتت وقدمت لهم وصية أخرى بخطها أو ممضاة منها فلا يعتبروها صحيحة، وأكدت لهم أن كل ما يدعى بصدوره منها بعدها يكون إما مزورا أو تكون هي مرغمة عليه.
ثم تناولت المركيزة قلما وقررت كتابة ما قررته أمام الحاضرين شفهيا، وأمضت الإقرار وسلمته للحاضرين، واستودعتهم إياه وديعة لدى ذي شرف شهيد.
وحدا هذا الإقرار وكل هذا الاحتياط بالحاضرين إلى استطلاع سر الأمر، فطرحوا على المركيزة جملة أسئلة فلم تجاوبهم عليها بما يفيدهم أو يزيدهم علما بالأمر، وغاية ما أبلغتهم أن لديها أسبابا خصوصية لا تستطيع إبداءها تدعوها إلى فعل ما فعلت.
Unknown page