وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، سمعت بعض الحذاق يقول: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمنًا، وأعظم قيمة، وأعز مطلبًا؛ فإن المعاني موجودة في طباع الناس، يستوي الجاهل فيها والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك، وصحة التأليف، ألا ترى أن رجلًا أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة لم يكن للمعنى قدر.
وبعضهم وأظنه ابنوكيع مثل المعنى بالصورة، واللفظ بالكسوة؛ فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس فقد بخست حقها، وتضاءلت في عين مبصرها.
وقال عبد الكريم وكان يؤثر اللفظ على المعنى كثيرًا في شعره وتآليفه: الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل، وإنما حكاه ونقله نقلًا عمن روى عنه النحاس.
ومن كلام عبد الكريم: قال بعض الحذاق: المعنى مثال، واللفظ حذو، والحذو يتبع المثال؛ فيتغير بتغيره، ويثبت بثباته.
ومنه قول العباس بن حسن العلوي في صفة بليغ: معانيه قوالب لألفاظه، هكذا حكى عبد الكريم، وهو الذي يقتضيه شرط كلامه، ثم خالف في موضع آخر فقال: ألفاظه قوالب لمعانيه، وقوافيه معدة لمبانيه، والسجع يشهد بهذه الرواية الأخرى، وهي أعرف.
والقالب يكون وعاء كالذي تفرغ فيه الأواني، ويعمل به اللبن والآجر،