Cilm Adab Nafs
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Genres
فإذا كان في سفينة مثلا فأشرفت السفينة على الغرق، فوجوده في هذه الحالة ومعرفته السباحة أو جهله إياها، أو وجود زوارق للنجاة كافية، إلى غير ذلك، كل هذا يعين ظرفا خاصا لسلوكه غير ظرف سواه، وسلوكه يتوقف على هذا الظرف الذي يحدد شخصيته؛ فشخصيته حينئذ غير شخصيته في حين آخر. قد ينتدب قبطان السفينة أهل المروءة لترك زوارق النجاة للأحداث والنساء واستلامهم هم للقدر؛ لأن الزوارق غير كافية للجميع. فزيد من الناس يستسلم للقدر، ولكن عمرا لا يستسلم. فمروءة زيد أيضا من جملة عناصر ظرفه. (1-3) العادة والاختبار
وبعض عناصر الظرف تكون وقتية عارضة، وبعضها عادية ثابتة، فالعادة تكون جانبا كبيرا من الظرف، وبالأحرى هي القسم الأوفر من شخصية المرء.
فمعرفة السباحة عادة مرافقة للمرء في كل حين، فهي تكون معه في البر والبحر والنهر، وفي حالة السلامة والخطر. وكل معرفة أو اختبار إنما هو عادة ملازمة لها شأنها في الظرف والشخصية.
ومهما تغيرت الظروف كان للمعرفة والاختبار ضلع فيها؛ فكثير الاختبار يسهل عليه أن يكيف نفسه بحسبها، أو أن يكيف بعضها حسب هواه، وقليله يصطدم بالظروف ويتخبط فيها خبط عشواء. وقيمة شخصية المرء تتوقف على سعة اختباراته، فالعادة إذن هي الحالة التي يعيش فيها المرء مكتسبا منها اختبارات خاصة تحدد شخصيته وظروفه.
من الاختبارات العادية تنشأ قوة الحكم والاختيار؛ لأن المرء يتعلم من الاختبار الصواب والخطأ، وتتولد فيه قوة الحكم. والأمر الذي لم نختبره بعد، أو إن لم نعرفه، لا نستطيع الاختيار فيه. فالشخصية الصالحة إذن هي التي تعلمت من الاختبار أن تختار الأصلح والأجود، هي التي تبتدع لنفسها ظرفا أدبيا يسير الفعل في مجرى أدبي يؤدي إلى غاية حميدة، ولا يقال عن شخص إنه صائب أو مخطئ في عمله، أو إنه صالح العمل وجيد السلوك إلا إذا كان عمله ينتج مسرة له ولغيره، أو له على الأقل، ولا ينتج ضررا لا له ولا لسواه.
فالذي يحسن أو يصنع خيرا لغاية دنيئة لا يعد عمله صالحا؛ لأنه لا يجد سروره في الإحسان، بل سروره في تلك الغاية الدنيئة الضارة بغيره. إذن السلوك الأدبي الجيد الفعل والغاية هو ما كان يبتغي السرور فيه من الغاية الجيدة. وهنا يسوقنا البحث إلى موضوع الحسن أو الجيد أو الحميد. ونقتصر هنا على لفظ «الحسن» في التعبير عن كل جيد أو حميد. (2) الحسن (2-1) ما هو الحسن؟
قبل أن نبحث في الحكم على الفعل - أو السلوك أو التصرف - إن كان حسنا أو غير حسن، يجب أن نبحث فيما هو الحسن أو الصالح، أو الجيد أو الحميد. وهي مترادفات. ولكي نفهم ما هو الحسن إلخ، نبحث فيما هو الحسن أو الجودة.
تقول: هذا القلم حسن أو جيد؛ لأن جودته قائمة في كونه يكتب بسهولة كتابة واضحة، وتقول: هذا الكتاب حسن؛ لأن حسنه قائم في كونه يمنحك معرفة مفيدة كنت تجهلها، وتقول: إن هذا المكتب جيد؛ لأن جودته قائمة في كونه واسعا ترتاح في الجلوس إليه وفي استعماله، وتقول: هذا الطعام جيد؛ لأنه شهي الطعم مغذ، وهذه الزهرة حسنة؛ لأن منظرها يشرح نظرك، ورائحتها تنعش نفسك.
فأول ما يتبادر إلى ذهنك في استخراج تعريف الحسن أو الجودة، أو الحسن أو الجيد، أنه هو ما كان مؤديا للغرض الخاص به، ولكن هل يمكن أن يكون هذا التعريف جامعا مانعا؟ إن المكتب الذي عددته حسنا لأنك ارتحت في الجلوس إليه وفي استعماله ليس حسنا لابنك الصغير الذي لا يرتاح لديه، والطعام الذي اشتهيته لأنه لذيذ الطعم لا يوافق معدتك، فما أدى إلى الغاية المرغوبة التي هي صحتك.
إذن ليس كل ما يفضي إلى الغرض الخاص به يعد حسنا؛ فالمدية تعد حسنة لأنها تبري القلم، ولكنها لا تعد حسنة حين تجرح يد الطفل، وهذا الطعام يعد حسنا لأنه يرضي حاسة الذوق، ويعد رديئا لأنه يضر المعدة؛ فلا يكون الشيء حسنا بنفسه لنفسه. إذن لماذا نعد الشيء حسنا أو رديئا؟ (2-2) هل الحسن ما وافق الغاية المرغوبة؟
Unknown page