Cilm Adab Nafs
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Genres
لعلك تظن وتعود إلى موضوع الغاية المرغوبة وتقول: إن الحسن هو ما أفضى بنا إلى الغاية المرغوبة. فهذا الدواء مع أنه مر هو حسن؛ لأنه نافع للصحة، والصحة هي الغاية المرغوبة. ولكن الغلام مع اقتناعه بأن الدواء نافع له ينفر منه، ويأبى أن يأخذه، فمع كونه مؤديا إلى الغاية المرغوبة لا يستحسن. ألا ترى أنك تعرف أمورا كثيرة تؤدي إلى غايات مرغوبة ولكنك لا تبتغيها؟ فما هي حسنة إذن في نظرك! أنت تعرف أن الاجتهاد يغنيك، والغنى غاية مرغوبة، ولكنك لا تجتهد! وتعرف أن صنع المعروف غاية مرغوبة ولكنك لا تصنعه! تعلم أن المسكرات ضارة، والإقلاع عنها غاية مرغوبة، ولكنك لا تقلع عنها! (2-3) هل الحسن ما أنتج سرورا؟
إذن قد نقول: إن أمر الحسن والجودة لا يتوقف على الشيء الجيد، ولا على تأديته للغاية المرغوبة، بل يتوقف على حكم المرء نفسه فيما إذا كان هذا الشيء حسنا له، فيرغب فيه أو يجعله غايته المرغوبة، وكأنك تقول: إن الحسن أو الجيد هو ما أفضى إلى نتيجة سارة للمرء. فهو يتجرع الدواء المر المذاق لأنه يبتغي سرورا بالصحة الجيدة، والطفل لا يقبل الدواء لأنه لا يدرك سرور الصحة، بل يبتغي لذة الذوق، فيطلب الشكولاتة الضارة بصحته وهو مريض لأنه يجد فيها حلاوة.
إذن هل يمكنك أن تقول: إن الحسن المطلق هو كل ما أفضى إلى لذة، أو هو اللذة بعينها؟ فالشكولاتة حسنة للطفل لأنه يستلذها، والدواء غير حسن له لأنه يعافه، والدواء حسن للرجل لأنه يحسن صحته التي هي غاية سارة له، والسكير لا يقلع عن السكر لأنه يبتغي لذة الثمل؛ فالسكر حسن عنده. (2-4) هل الحسن ما اعتقدت بحسنه لك؟
بالطبع تقول: لا؛ لأنه حالا يبدر لذهنك أنه لا يكفي أن يكون الشيء سارا بحد نفسه، ولا يكفي أن يكون المرء مسرورا به، بل لا بد من أمر آخر؛ وهو أن يكون المرء مقتنعا أنه حسن له بقطع النظر عن كونه سارا. فالسرور بالحسن لا يضمن حسنه، كما أن سرور السكير بالخمرة لا يضمن حسنها.
هنا بلغنا إلى النقطة الجوهرية في موضوعنا؛ وهي أدبية الفعل. هنا لا بد من قوة الحكم في الأمر هل هو حسن حقيقة أو غير حسن، هل يؤدي إلى الغاية المرغوبة، أو هل هو الغاية المرغوبة نفسها. قد يكون الحكم خطأ كما يمكن أن يكون صوابا، فليس هذا موضوعنا الآن، بل سيكون موضوعنا فيما بعد . (2-5) أدبية الحسن
إذن الحسن هو ما كان حسنا بحد نفسه؛ أي مطابقا للغاية التي وجد لها، وكنا نحن نستحسنه أيضا؛ أي نعتقد أنه حسن لنا، فمنه الحسن أو الجودة، ومنا الاستحسان. فاستحساننا سواء كان صوابا أو خطأ هو حكمنا العقلي، وهو يقرر جودته، حتى إذا ظهر لنا بعدئذ أنه غير حسن استقبحناه وغيرنا حكمنا فيه.
فجودة الجيد في نظرنا ليست في صفاته التي اختبرناها به، بل في تأثيره في ذهننا التأثير الذي يحرك قوة الحكم فينا، فنحكم هل هو حسن أو غير حسن. وهذه القوة نعبر عنها بالاستحسان؛ فاستحسان الحسن هو حالة عقلية تحدث في النفس شعورا بالسرور. إذن الحسن ليس سرورا بحد ذاته، بل هو محرك للشعور السار إذا كان الوجدان يحكم بأنه حسن، وإلا فمهما كان حسنا بحد ذاته فلا يعد حسنا للمرء ما لم يستحسنه الوجدان. ليس حسنا لخواص فيه، بل لأنه يوافق حالة عقلية فينا تثير قوة الحكم باستحسانه، وعن يد هذه القوة نشعر بالسرور. (3) الجميل والجمال (3-1) الفرق بين الجميل والجيد
لكيلا يخلط القارئ بين الحسن والجمال، أو بين الحسن والجميل، أو لكيلا يلتبس عليه الأمران؛ نبحث في ماهية الجمال، ولا سيما أن للجمال نصيبا من أدب النفس. ودفعا لهذا الالتباس، نستعمل لفظتي جودة وجيد بدل حسن وحسن؛ لأن لفظ الحسن بلغتنا يستعمل للجيد تارة وللجميل أخرى، والفرق بينهما ظاهر. كذلك بينهما فرق من الوجهة الأدبية التي نحن بصددها؛ فالجيد قد يكون جميلا وقد لا يكون، على أن الجميل جيد على كل حال، وإنما فيه شيء آخر يميزه عن الجيد. ولا بد من البحث فيما يميزه؛ لأن الجمال يلعب دورا عظيم الشأن في الحياة الأدبية.
إذا قلنا: إن هذا الطعام جيد لأنه صحي؛ ولهذا استحسناه، فليس في هذا الاستحسان معنى الجمال، ولكن إذا قلنا: هذه الحديقة تسر الخاطر ولهذا استحسناها؛ فهي إذن جميلة، ولكنا لا نقول: إنها جيدة ما لم نمتع النفس بجمالها، فليس جمالها غايتنا المرغوبة، بل التمتع بها. والغاية المرغوبة هي الدخول إلى هذه الحديقة للتمتع بها، أو اقتناؤها، أو إنشاء حديقة لنا مثلها.
فالفرق بين الجيد والجميل إذن هو أن الجيد لا نقول بجودته ما لم نحكم بها، وأما الجميل فنقول: إنه جميل بلا حكم في جماله؛ فالحكم العقلي يسبق تقرير ابتغاء الجيد، والإعجاب بالشيء يسبق تقرير جماله، فنقول عن هذه الزهرة: إنها جميلة لأننا أعجبنا بشكلها، ونقول: إنها جيدة لأننا ابتغينا اقتطافها للتمتع بنظرها ورسمها. (3-2) الحكم للجمال على الذوق
Unknown page