ولهما من الحصافة وثقوب البصيرة، ومن سعة الحيلة وفدح الختل، ومن وفرة الحنكة وغناء الاختبار، ومن مضاء العزيمة وثروة الذهن، لهما من ذلك كله وما إلى ذلك من شتى الصفات السياسية ما لا قبل لأحدهما به من صاحبه، فلكل من صاحبه بواء ونديد، ومنازل عنيد، وكمي صنديد.
انظر إلى الأمين قد كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك، وهو عامل المأمون على الري، وأمره بأن يبعث إليه بغرائب غروس الري، فبعث إليه المسكين بما أمره به، غير عالم أن للمأمون ورجاله عيونا وأرصادا، ولهم قبل ذلك يقظتهم التي لا تني ولا تغفل، فماذا كان من المأمون؟
بلغ المأمون ما كان من عامله الساذج المسكين فعزله، ووجه مكانه الحسن بن علي المأموني، وأردفه بالرسغي على البريد، وهكذا حاولت الديبلوماتيقية «الربيعية» أن تصرف قلب عامل كبير عن أمر المأمون والقضية المأمونية؛ نكاية بالديبلوماتيقية «السهلية» التي اكتسبت رافعا وضمت إلى حزبها بيت ابن سيار، وناهيك ببيت ابن سيار!
ولنتطرق الآن إلى التكلم عن الحرب الكلامية التي نشبت بين الأخوين، والتي كانت بلا ريب مقدمة لوقوع الحرب العامة، وبعبارة أدق: لنتكلم عن الوفود السياسية محاولين على قدر استطاعتنا، واستنادا إلى ما بين أيدينا من مصادر ووثائق وصف الكفايات السياسية في ذلك العصر الغني حقا برجالاته ودهاته. (4) الوفود السياسية
لنتساءل أولا: ماذا حدث في السنة التي نحن في صددها، وهي سنة أربع وتسعين ومائة؟ فإنها مليئة - والحق يقال - بمنتجات هاتين العقليتين العاتيتين حقا، الجبارتين بلا مبالغة ولا إغراق، ونعني بهما عقليتي الفضل بن الربيع والفضل بن سهل.
حدث أن وجه الأمين وفدا سياسيا إلى المأمون قوامه العباس بن موسى، وصالح صاحب المصلى، ومحمد بن عيسى بن نهيك، وطلبوا إليه تقديم موسى بن الأمين الذي سماه «الناطق بالحق» على نفسه، وقد يكون من الطريف الممتع حقا أن نوضح ما كان من أمر هذا الوفد، وهل وفق الحزب المأموني فيما حاول من الأخذ بقلوب رجاله، أو بعضهم على الأقل؟ فإن في توضيحنا لذلك ما يمدنا بصورة لا بأس في جملتها، من صور الديبلوماتيقية في ذلك العصر، وإن في تفهمنا هذه الصورة ووقوفنا عليها نفعا عظيما يعيننا، بلا ريب، على تفهم العصر وروح سياسته.
يحدثنا التاريخ أن العباس بن موسى، أحد رجال الوفد الأميني، قال للمأمون: «وما عليك أيها الأمير من ذلك، أي من تقديم موسى عليه، فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع، فما ضره ذلك؟!» ويحدثتا أيضا بأن الفضل بن سهل كان موجودا، كما هو المنتظر، في ذلك المؤتمر السياسي، وأنه لما سمع كلمة العباس هذه صاح به: «أسكت فجدك كان في أيديهم أسيرا، وهذا بين أخواله وشيعته!»
أتعرف ماذا كان من أمر الوفد؟
إنه قد انصرف، ولكن لا إلى الأمين، بل إلى منازل خصصها لهم المأمون، حيث أفرد لكل واحد من أعضاء الوفد منزلا، وأكرمهم مثل ذلك النوع من الإكرام السياسي الذي تتلقى به الحكومات الحاضرة الوفود السياسية، فتأمل.
ثم لننظر معا، معتصمين بالأناة والصبر قليلا، في تصرف الفريق الآخر في السنة عينها، فنرى أن الوفد قد عاد إلى الأمين وأخبره بامتناع المأمون، فألح عليه الفضل به الربيع وعلي بن ماهان في البيعة لابنه موسى «الناطق بالحق»، وخلع المأمون، فأجاب الأمين إلى ذلك، وأحضن ابنه علي بن موسى الذي ولاه العراق، وتسارع بعض ولاة الأمين في انتهاز الفرصة للتقرب منه، والتحبب إليه بالمبادرة بأخذ البيعة له قبلهم، وقد كان أول من فعل ذلك بشر بن السعيد الأزدي وصاحب مكة وصاحب المدينة.
Unknown page