ولما عاد جعفر موفقا من سفرته هذه وقد استخلف على الشام مكانه عيسى بن العكي، دخل على الرشيد فزاده إكراما وإجلالا.
وإنا لننقل لك هنا ما قاله جعفر للرشيد حين مثل بين يديه؛ لأنه يعتبر أثرا قيما من ناحية تحليل نفسية الطرفين، ولروعته وبلاغته في أدب العصر، ولأنه في الوقت نفسه بمثابة نص تاريخي للعصر الذي ندرسه؛ قال الطبري: لما دخل جعفر على الرشيد قبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه فقال: الحمد لله، يا أمير المؤمنين، الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته، فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاص لحقتني، وخطايا أحاطت بي، ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، لخفت أن يذهب عقلي؛ إشفاقا على قربك، وأسفا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة، ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترمني أجل دونك، والله يا أمير المؤمنين، فلا أعظم من اليمين بالله، لقد عاينت، فلو تعرض لي الدنيا كلها، لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضا من المقام معك، ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله، يا أمير المؤمنين، لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع ألفتهم، ويلم شعثهم، حفظا لك فيهم، ورحمة لهم، وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك. والله المحمود على ذلك، وهو مستحقه.
وفارقت، يا أمير المؤمنين، أهل كور الشام وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم. وعفو أمير المؤمنين عنهم، وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم، وايم الله، يا أمير المؤمنين، لئن كنت قد شخصت عنهم وقد أخمد الله شرارهم، وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك وريحك، ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله، يا أمير المؤمنين، ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه، والله ما انقادوا إلا لدعوتك وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك، وما كان الذي كان مني، وإن كنت بذلت جهدي وبلغت مجهودي، قاضيا ببعض حقك علي، بل ما ازدادت نعمتك علي عظما إلا ازددت عن شكرك عجزا وضعفا، وما خلق الله أحدا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلا مهجتي في طاعتك وكل ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي؟! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكرك بإكرامك إياي؟! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي؟! وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي؟! أو كيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي؟! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي؟! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك بما تجدده لي؟! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي؟! أم كيف بشكري وأنت وليي؟! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي؟! وأنا أسأل الله - الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذ كان الشكر مقصورا عن تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره - أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك وجليل منتك، فإن ذلك بيده وهو القادر عليه.
وفي أخبار سنة ثمانين ومائة نفسها ولى الرشيد جعفر بن يحيى الحرس، وهكذا تجد في أخبار كل سنة نبأ عن آل برمك، وتمداحا لآل برمك، وأثرا جليلا في خدمة الدولة من آل برمك، ومكانة سامية تبوأها آل برمك من الرشيد.
وإنا لا نرى ندحة من إيراد واقعة حال رواها الفخري بين جعفر بن يحيى البرمكي وعبد الملك بن صالح الذي سعى به كاتبه قمامة وابنه عبد الرحمن عند الرشيد بتهمة طلبه الخلافة لنفسه، حتى حبسه الرشيد عند الفضل بن الربيع - وهو منافس لآل برمك - وكثيرا ما سعى الساعون بين صالح والرشيد. فإذا ما تعرض البرمكيون بالخير لرجل من كبار رجالات الدولة المتهمين بالتطلع إلى الخلافة، وإذا ما نجح البرمكيون في إيصال الخير لهم ، وفي إرضاء قلب الرشيد عليهم، كان في ذلك أصدق دليل على مكانتهم الرفيعة من الرشيد، فما بالك إذا ما وصلوا إلى أن يبني أحد أولاد صالح على إحدى بنات الرشيد، وإذا ما اقتطعوا له الولايات ورفدوه بأجزل الأموال؟!
على أنا نترك الكلمة لابن طباطبا ليقص عليك ما يرويه فيما نحن في صدده، قيل: إن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يوما للشرب وأحب الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم، وجلس معهم وقد هيئ المجلس ولبسوا الثياب المصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب ألا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم، اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان - وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له: عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه، وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل - فاتفق أن عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وألا يدخل غيره، فأذن الحاجب له، فدخل عبد الملك بن صالح العباسي على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم، أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا، فأحضر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم. فسقوه رطلا، وقال: ارفقوا بنا؛ فليس لنا عادة بهذا. ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحا شديدا وقال له: ما حاجتك؟ قال: جئت، أصلحك الله، في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها: أولاها: أن علي دينا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه. وثانيتها: أريد ولاية لابني يشرف بها قدره. وثالثتها: أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة؛ فإنها بنت عمه وهو كفء لها.
فقال له جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث؛ أما المال ففي هذه الساعة يحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليت ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله. فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد، حضر جعفر عند الرشيد وعرفه ما جرى، وأنه قد ولاه مصر، وزوجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر، وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
أرأيت كيف لم ينقض الرشيد ما أبرمه جعفر في مسألة خطيرة الخطر كله، لأنها تتعلق بكرامة الرشيد وأسرة الرشيد وشئون الرشيد الخاصة؟
أليس في ذلك ما يقطع برفيع مكانة القوم، وكبير قدرهم، وسامي منزلتهم عند الرشيد وفي الدولة التي هم مفزع رجالاتها، وموئل زعمائها؟
وأرجو ألا يفوتك في المثل المتقدم ما جاء فيه خاصا بالملابس؛ فإنه قد يعطيك فكرة ما عن تخصص بعضها للسهرات والردهات والمنادمات مما لا يختلف عن نظام اليوم من «ردنجوت» و«سموكنج» و«فراك» إلى غير ذلك مما يدل على مبلغ الثروة، واستفحال أمر المدنية عند القوم في تلك الأيام الخاليات؛ فتأمل ...! •••
Unknown page