فانتقم منها بالتمادي في الصمت، فقالت: آن لي أن أعترف لك بأشياء.
في الصمت ارتفع نقيق الضفادع وزقزقة العصافير. واصلت الحديث: اهتممت بمعرفة كل شيء، فكرت في الإذعان لمشيئتك، فجاءتني معلومات غير متوقعة.
أنصت باهتمام ولكنه لم ينبس. - كان ثمة حب متبادل بينها وبين حمدون، ذاك أمر الله ولا لوم على أحد.
فهتف وهو لا يدري: كان يخدعني! - أبدا، إنه فتى أمين، لم يكن في موقف سعيد، لا أدري ماذا كان يدور في ذهنه، ولكنه على أي حال لم يخطئ في حقك.
وتنهدت بعمق واستطردت: اضطررت إلى الإصرار على الرفض، ولم أر خيرا في كشف الحقيقة.
قربت وجهها المحزون منه حتى لثمت جبينه وقالت: لا تستسلم للحزن، الحياة أقوى من كل شيء، سيجيئك السلوان بأسرع مما تقدر، وستجد من هي خير منها.
عند ذاك جاءت أم سيدة تتقدمها نحنحة فظة. غادر المكان والمغيب يستفحل، وفي الممر التقى بسيدة قادمة لتلحق بأمها. تصافحا. وفجأة اشتعل بلا تمهيد ولا مقدمات، وبلا سبب في الظاهر. أخذ بما اجتاحه. لم يترك يدها. مضى إلى الداخل جاذبا يدها معه. أذعنت بلا مقاومة تذكر متشجعة بالظلمة. لم ينبس بكلمة، ضمها إليه، شملها ذهول أخرس. أطاع قدرا جامحا وغامضا وبلا أدنى تفكير في العواقب، وكأنه يعبث في الظلام وحده بلا شريك. وتفشى في الوحدة المطلقة إذعان ذليل ورغبة دفينة وذكرى آسرة. وحفرت في لوحة الليل السوداء نقوش لا تمحى.
8
لم يعد الحب هو المحتل الوحيد للمكان، زاحمه قدر جديد هو الخوف. وتناسى الحب أحيانا ليرامق الشبح الجديد، وهو شبح ثابت لا يتزحزح ولا يهن بمرور الزمن. ومن الأخطاء خطأ لا يني يطارد ويطالب بحل. وسيدة في ذاتها لا شيء، ولكنها بسبب الخطأ صارت كل شيء. إنها الآن تستكن في ركن من الوجود، ضئيلة لا ترى، غائصة في ضعفها، ولكن صوتها يدوي مثل صرار الليل. لقد مات أبوها من دهر، أخوها الأكبر في السجن، والأصغر مهاجر، أمها ربيبة نعمة أمه، ولكن الخطأ قوض بناء وأقام محله بناء جديدا. ما العمل؟ ما اعتادت أعماقه أن تقترح حلولا، ولكنها دأبت على القتل. ونظرة سيدة التي ترمقه بها عند اللقاء العابر راسخة في خياله، مفعمة بالدلالات المشتركة، ذليلة وجلة يائسة، تؤكد له أن ما كان لا يمكن أن يمضي كأن لم يكن. إنها حزنه الخفي حين يتجسد، وأحيانا تند عنها إشارة خفية تحكي مأساة متكاملة، استغاثة حارة صامتة، تستوهب إحسانا أو رحمة كآخر انتفاضة للضفدع قبل أن تسلم الروح. ما العمل؟ وتذكر وهو كاره حمدون. لماذا؟ ربما لثرثرته الملحة عن الأقوياء والضعفاء، لآرائه التي يريد أن يصلح بها الكون.
وكان يقرأ فصلا في رواية بوليسية عندما خيل إليه أن صوت أمه يحتدم في الحديقة. نظر من نافذته فرأى المرأتين - أمه وأم سيدة - تسترسلان في حديث ما. داخلته كآبة مثل جو المغيب المخيم. سيحدث ذات يوم أمر ما. إنه يتوقعه كما يتوقع مريض الفم ضربان ضرسه. •••
Unknown page