ثانيا: إن الحكم التحليلي نوعان، لا نوع واحد فقط كما اعتقد كنط وسائر الفلاسفة المحدثين؛ فإن هناك نوعا آخر من التحليل والأولية هو عكس النوع السابق وله عين القوة، ونعني به تضمن المحمول للموضوع، كالفرد والزوج فإنهما قسما العدد ويتضامنانه. وقد نبه أرسطو على النوعين، ودعاهما بالحمل الذاتي أي الإضافة الذاتية.
28
وقال ابن سينا: «الحمل الذاتي يقال على وجهين، فإنه إما أن يكون المحمول مأخوذا في حد الموضوع، مثل الحيوان في حد الإنسان، وإما أن يكون المحمول مأخذوذا في حده الموضوع أو جنسه، مثل الفطوسة التي يؤخذ في حدها الأنف، والمثلث الذي يؤخذ في حده السطح.» وقال ابن رشد: «ما بالذات يكون في القضايا الحملية على وجهين؛ أحدهما أن يكون المحمول مأخوذا في جوهر الموضوع، مثل النطق المأخوذ في جوهر الإنسان، والثاني أن يكون الموضوع مأخوذا في جوهر المحمول، مثل وجود الزوايا المساوية لقائمتين في المثلث.»
29
ففي كل من النوعين يلزم التوحيد بين الحدين؛ لأن النسبة بينهما ذاتية. وترجع العلية إلى النوع الثاني، ولئن لم تكن النسبة بين المعلول والعلة داخلة في مفهوم العلة أو في مفهوم المعلول، كما يريد هيوم وكنط، إلا أنها لاحقة ضرورة لوجود المعلول، من حيث إنه معلول لآخر ويستحيل وجوده من دون أن يكون معلولا، كما يستحيل وجود إنسان غير ضحاك أو وجود مثلث لا تكون زواياه مساوية لقائمتين، فهناك نسبة ضرورية بين ممكن الوجود وبين وجوده الفعلي متى وجد، وهذه النسبة تحليلية، ورفضها رفض لمبدأ عدم التناقض كما تقدم. هي نسبته من المعلول إلى علته أو من الخاصية إلى الماهية، بعكس النسبة من العلة إلى المعلول أو من الماهية إلى الخاصية، والنسبتان ضروريتان لا فرق بينهما في الضرورة. هكذا يحل الإشكال الذي استعصى حله على الكثيرين، وتثبت للعلية قيمتها المطلقة.
وكثيرون، من بينهم كنط، اعتقدوا أن مبدأ العلية، إن سلمنا به، يقضي بالرجوع من علة إلى علة دون الانتهاء إلى علة أولى تكون التفسير الأخير للعلية. وفي هذا الاعتقاد إيهام للمبدأ يعدل الإنكار؛ إذ إن عدم الوقوف عند حد في سلسلة العلل معناه عدم الوصول إلى علة بمعنى الكلمة، أعني علة غير معلولة، وترك السلسلة معلقة. وهذا مناف لمبدأ العلية؛ فإنه في الحقيقة يقتضي علة غير معلولة تكون بداية مطلقة للعلية، ولا صعوبة في تصور مثل هذه العلة، بل إن كل علة فهي بهذه المثابة: أجل إن العلة التي تقبل فعل علة أخرى لكي تصير فاعلة هي علة ناقصة تحدونا إلى التماس علة لعليتها، لكنها من جهة ما هي علة وفاعلة لا تقبل فعل علة أخرى ولا تتغير، وإنما هي تفعل بما لديها من قوة على الفعل، كالساخن حين يسخن والمعلم حين يعلم، فإن الفعل تحقيق في المنفعل للقوة الفاعلية التي في الفاعل، وكل ما هنالك أن للعلة الأولى من القوة وما يغنيها عن كل قوة سواها. فالتسلسل إنكار للعلية لا تطبيق لها كما يحسبون، ومعنى المبدأ أن لكل ظاهرة علة، لا أن لكل علة علة.
بعد رد هذه المحاولات لتجريح مبدأ العلية، نسأل: كيف نحصل على هذا المبدأ؟ إن خصومه مجمعون على أنه غير آت من التجربة، سواء الظاهرة والباطنة. وقد كان هيوم أدقهم تحليلا وأكثرهم إسهابا بهذا الصدد، قال: إن التجربة تؤدي إلينا ظواهر متعاقبة، ولا يشعرنا التعاقب بقوة فيما يسمى علة يحدث بها ما يسمى معلولا. ونحن نعلم أن حركة أعضائنا تعقب أمر إرادتنا، ولا ندرك علاقة ضرورية بين الحركة والأمر، ولا نشعر بأننا نستخدم الأعضاء المتوسطة بين أمر الإرادة والفعل، ولا نفهم كيف يمكن لفعل ذهني كالأمر أن يحرك عضوا ماديا. فللتعبير عن الواقع لا ينبغي القول إن هناك أحداثا، بل يجب الاقتصار على القول إن ظاهرة قد ظهرت. وأما أنها معلول أو ليست معلولا، فهذه مسألة أخرى. وما معنى العلة سوى عادة ذهنية يولدها جريان الظواهر، من خارجية وداخلية، وتحملنا على توقع ظاهرة معينة كلما أدركنا ظاهرة أخرى معينة ارتبطت بها في تجربتنا الماضية، وما يزعم لها من ضرورة ناشئ من أن العادة تجعل الفكر غير قادر على عدم تصور اللاحق وعدم توقعه إذا ما تصور السابق. بل ذهب جون ستوارت مل إلى أن الإنسان المثقف المعتاد التجريد يستطيع أن يعود ذهنه تصور أحداث تحدث بدون علة، وأن الذين يعتقدون بالمصادفة والقدر والمعجزة والحرية هم أناس يعتقدون فعلا بعدم ضرورة العلة.
ولنا على هذه الأقوال ملاحظات:
فأولا:
أن معنى العلة يبدو أوليا في العقل سابقا على تكوين التجربة، ونحن نرى الأطفال يسألون عن العلل وهم موقنون بأن هناك عللا، بحيث يبدو الاعتقاد بالعلية واحدا عند جميع الناس وفي جميع الأعمار، مع أن المذهب الحسي يقضي بأن تكون قوة العادة معادلة لمبلغ التجربة.
Unknown page