وقد جمع هيوم الحجج، كما جمعها من قبله مالبرانش؛ قال: إن مبدأ العلية لا يستنبط استنباطا مستقيما من مبدأ عدم التناقض، وإذن فهو ليس أوليا. وهذه حجة مقدمها حق وتاليها باطل؛ وذلك لأن مبدأ العلية يستند على مبدأ عدم التناقض استنادا غير مستقيم أو بالرد إلى الخلف من جهة أن إنكاره زعم بأن شيئا يوجد دون أن يكون له ما به يوجد؛ وهذا تناقض صريح.
ولكن هيوم يعتبر هذه الحجة قاطعة، فيرتب عليها حجة أخرى هي أن ربط مبدأ العلية بمبدأ عدم التناقض مصادرة على المطلوب. وذلك أن أنصار العلية يقولون: إن الشيء الذي يظهر للوجود إنما يظهر عن علة، وإلا كان علة نفسه؛ وهذا محال، أو كان معلولا للعدم، وهذا محال أيضا. وهم لا يفطنون إلى أن هذا التدليل على العلية يعتمد على العلية نفسها، أي إنه يفترض المطلوب الذي هو ضرورة العلة؛ إذ يجب التدليل على هذه الضرورة قبل الاحتجاج ببطلان وضع العلية في الشيء الذي يظهر للوجود أو في العدم. وجوابنا أن لا وجه للظن بأن في هذه القسمة التي يعول عليها برهان الخلف مصادرة على المطلوب؛ إذ إن النظر ههنا واقع على عين الوجود، أي على موجود يظهر للوجود، فهو بهذا الاعتبار لا يظهر بنفسه، ولا يفعل العدم، فيبقى أنه يظهر بفعل موجود آخر هو علته. وهذه القسمة أولية إطلاقا لأولية معنى الوجودي واللاوجود المركب منهما مبدأ عدم التناقض الذي هو مبدأ أول بلا منازع.
وتفاديا لشبهة المصادرة هذه ندلل على مبدأ العلية على الوجه الآتي: إن إنكار هذا المبدأ يعدل إثبات أن الحدث، وهو الموجود بذاته، يمكن أن يكون غير محدث، وغير المحدث موجود بذاته، فيخرج لنا أن الموجود الحادث غير المحدث هو موجود بذاته ولا بذاته في آن واحد، وهذا خلف.
ويرتب هيوم نتيجة أخرى على استحالة استنباط مبدأ العلية من مبدأ عدم التناقض استنباطا مستقيما، فيقول: وإذن فمعنيا العلة والمعلول متغايران، ويستحيل أن نعلم العلة من المعلول أو المعلول من العلة علما مبدئيا أي قياسيا، إنما هي التجربة التي تعرض علينا الظواهر متعاقبة. ومتى كان معنيا العلة والمعلوم متغايرين، فمن السهل علينا أن نتصور شيئا أيا كان كأنه غير موجود الآن وكأنه موجود في اللحظة التالية، دون أن نرفق به معنى متميزا لعلة أو مبدأ محدث، فيكون الفصل بين معنى العلة ومعنى بداية الوجود أمرا ممكنا. والجواب أن ههنا خلطا بين حالتين مختلفتين: إحداهما مجرد تخيل شيء ما غير موجود ثم تخيله موجودا، والحالة الأخرى مقارنة بين وجوده الآن وبين عدم وجوده في اللحظة السابقة. فما إن نعتقد هذه المقارنة حتى نرى أن خروجه من اللاوجود إلى الوجود فعل علة بالضرورة.
قد تأثر كنط بنقد هيوم تأثرا قويا، فسلم بأن النسبة بين المعلول والعلة خارجة عن مفهومهما، وأن التجربة هي التي تعرض علينا الحدين مرتبطين. ولما كانت التجربة جزئية متغيرة، فهي لا تصلح أساسا للضرورة والكلية اللتين يدعيهما العلم. غير أن كنط كان مقتنعا أشد اقتناع بقيمة العلم، مصرا كل الإصرار على إنقاذه من تشكك الحسيين، وكان عارفا تمام المعرفة أن العلية دعامة القوانين العلمية، وأنه لو كان منشؤها عادة متكونة بتكرار التجربة كما يقولون، لكان بالإمكان، وقد علمنا ذلك، أن نرجع عن اعتقادنا بضرورتها، والواقع أن الاعتقاد بضرورتها مستمر غير منقطع. يبقى أن هذه النسبة آتية من العقل، لا عقل مدرك كما تصوره أفلاطون وديكارت وليبنتز، ويرفضه الحسيون بحق، بل عقل موقوف عند حده، مبرأ من دعوى إدراك الوجود، وظيفته تأليف الأحكام الضرورية.
هذه الأحكام نوعان: أحكام تحليلية، وأخرى تركيبية. الأحكام التحليلية هي التي محمولها مستفاد من تحليل معنى الموضوع، مثل قولنا: «قبلية»؛ لأنها تؤلف «قبل» التجربة أي بدون معونتها، ولكنها أحكام تفسيرية فقط، لا يزيدنا المحمول فيها علما بالموضوع، ولا تفيد في إقامة العلم، والعلم واقع على التجربة.
والأحكام التركيبية تؤلف بين حدين متغايرين مستفادين من التجربة مع نسبة بينهما تبدو ضرورية، فحيث يؤدي إلينا الحس أن «الشمس تسطع وهذا الحجر يسخن»، يؤدي إلينا العقل أن «ضوء الشمس يسخن الحجر»، أي إن العقل يزيد نسبة العلية على الظاهرتين المحسوستين يربط بها بينهما برباط ضروري، فتسمى هذه الأحكام «بعدية»؛ لأنها تثبت المحمول للموضوع أو تنفيه عنه تبعا للتجربة.
27
وعلى هذا الوجه يبرره الحكم العلمي، فلا إنكار للعلم كما ينكر الحسيون، ولا دعوى النفاذ إلى بواطن الأشياء كما يدعي العقليون المسرفون، ولكن توسط بين الفريقين، يحق شيئا عند كل منهما ويبطل شيئا، ويجمع بين ما يحق في مذهب واحد.
ونحن نقول: ذاك وسط ظاهري لا حقيقي، وتلك تعريفات خاطئة وتحديدات ناقصة. فأولا ليس بصحيح أن الحكم التحليلي هو الذي محموله مفهوم موضوعه وحسب، وإنما هو بنوع خاص ذلك الذي يستخرج محموله بتحليل موضوعه في ذاته أو جوهره، من حيث إنه قد يكون للموضوع خواص لازمة له كلزوم المحمول المذكور في مفهومه أو تعريفه، فتكون النسبة بينها وبينه ضرورية أيضا. مثال ذلك ما نراه في الإنسان من علم ودين وأخلاق وفن وضحك وصناعة وحضارة، فإن كل أولئك للإنسان بسبب كونه ناطقا، فتضاف إليه إضافة ضرورية ولو لم تظهر في «النطق» الذي هو حد الإنسان، ولم نفكر فيها وقت تفكيرنا في حد الإنسان.
Unknown page