إذا كان لنا عقل فهل يعقل الوجود؟ وهل يعقله على حقيقته؟ لقد تضاربت آراء الفلاسفة في الإجابة عن هذين السؤالين أشد التضارب. إن الناس في جملتهم يعلمون أنهم يخطئون أحيانا في الإدراك الحسي، ويخطئون أحيانا في الاستدلال العقلي، ولكنهم يصححون أخطاءهم ويظلون على الاعتقاد بأن حواسهم آلات حسنة لمعرفة الأشياء، وأن عقلهم آلة صالحة للتصور والاستدلال. والفلاسفة منهم يعتقدون مثل هذا بالفعل، ويحيون وفقا لهذا الاعتقاد، ولكن بعضهم حين يفلسفون ينساقون إلى نظريات تستتبع الشك في قيمة المعرفة فيشكون فيها.
كانت الفلسفة اليونانية ما تزال في مهدها لما ارتأى بارمنيدس أن العالم كائن واحد ساكن، فنتج لديه أن ما تظهرنا عليه الحواس من موجودات متكاثرة متغيرة إنما هو محض وهم. واقتنع معاصره هرقليطس بأن الأشياء في تغير متصل، فاستنتج من ذلك أتباعه من السفسطائيين أن الإحساس تغير ذاتي تابع لحالتنا البدنية ولحالة الأشياء منا، وأننا من ثمة ندرك انفعالنا بالأشياء ولا ندرك الأشياء أنفسها، وكان ديموقريطس قد ذهب إلى أن الموجودات مؤلفة من ذرات متجانسة غير مكيفة. ولما كانت حواسنا تصور لنا كيفيات في الموجودات، فقد صارت الحواس متهمة بالخداع. وتوالت المذاهب والآراء في نقد الحواس ونقد العقل، وتكونت مدرسة شكية أخذت على نفسها مهاجمة المعرفة الإنسانية والتوقف عن إثبات أي شيء.
1
وموضوع هذا الباب الثاني تمحص تلك المذاهب والآراء في ترتيبها التاريخي الذي يبين تأثر اللاحق منها بالسابق، فيساعد على فهم نشأتها وتطورها، ثم الدفاع عن موضوعية الإدراك الحسي ووجود العالم الخارجي، وأخيرا الدفاع عن موضوعية الإدراك العقلي للماديات، وعن كفاية العقل لتكوين ما بعد الطبيعة، بحيث نصل إلى آخر هذا الباب وقد فزنا بالثقة بالعقل وبالحواس، وانفتحت أمامنا الآفاق إلى كل الوجود.
ترجع الحجج التي جمعها قدماء الشكاك من اليونان وخلفوها لمن جاء بعدهم إلى الأربعة التالية:
أولا:
الأخطاء التي يقع فيها الناس، ومنها أخطاء الحواس، وأخطاء الوجدان في اليقظة والمنام، وأخطاء الذاكرة، وأخطاء الاستدلال، وهذيان المحمومين، وتخيلات المجانين. إن البرج المربع ويبدو لنا عن بعد مستديرا، والمجذاف يبدو منكسرا في الماء، ومتى سارت بنا مركبة أو سفينة بدا الطريق وبدا الشاطئ كأنه يسير. ونحن جميعا نعتقد بحقيقة ما يتراءى لنا من الصور في الأحلام، فلم لا تكون اليقظة وهما كالحلم؟ والذي نسميه مجنونا لا يعرف أنه مجنون بل يظن نفسه عاقلا، فما يدرينا أن عقلنا ليس جنونا؟ ولما كان التصديق مصاحبا لتصوراتنا جميعا، فبأية علامة نميز الحق من الباطل؟ وما الذي يضمن لنا أننا لا نخطئ دائما؟
ثانيا:
اختلاف الناس في إحساساتهم وآرائهم وعقائدهم وأخلاقهم وعاداتهم، حتى ليمتنع التوفيق فيما بينها على من يحاوله، والمذاهب الاعتقادية متعارضة يهدم بعضها بعضا، ومع ذلك فكل مقتنع برأيه متعصب له. إن هذا الاختلاف الشامل دليل ساطع على عدم وجود حقيقة بالذات، أو على عدم استطاعتنا الوصول إليها إن وجدت.
ثالثا:
Unknown page