امتناع البرهان التام، فإن البرهنة على قضية ما تستلزم الاستناد على قضية أخرى، وهذه تستلزم الاستناد على ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية. فنحن مسوقون إلى التسلسل دون أن نستطيع الوقوف عند حد وإرساء العلم على أساس.
رابعا:
امتناع التدليل على صدق العقل، وهذا الدليل واجب؛ إذ من الخلف الوثوق بالعقل قبل الاستيثاق من إمكان الوثوق به، ولا نستوثق من هذا الإمكان إلا بالعقل، ولا يصح أن يكون العقل حكما في صدقه هو، أو نقع في دور لا مخرج منه.
والشكاك لا ينكرون شعورهم باليقين الأولي الحاصل لجميع الناس بالإحساسات الظاهرة والباطنة؛ إذ إن التصديق بها طبيعي لا يقاوم، وكان شأنهم معها كشأن جميع الناس في الحياة العادية. وقد روي أن إمامهم «بيرون» اضطر ذات يوم إلى الهرب من كلب، فأخذ يركض وهو يقول: «ما أصعب التخلص من الطبع!» ولكنهم يقولون: إنهم يمتحنون هذا اليقين الأولي فلا يجدون له مبررا يحيله يقينيا عقليا، وإن الموقف الحكيم في هذا الامتحان أو البحث النقدي اللاحق على التصديق الأولي إنما هو تعليق الحكم والقول «لا أدري». فالشاك يعلم مثلا أن هذا الشيء يبدو له أبيض، وهو يصرح بذلك، أي روي إحساسه، ولكنه لا يؤكد أن الشيء في ذاته أبيض، فكانت في ذهنه فجوة بين المعرفة النقدية والحياة العملية، وكانت هذه الفجوة مثار اعتراض قوي على الشكاك هو وقوعهم في التناقض. فابتدع أحد مشاهيرهم «قرنيادس» نظرية الرجحان لتسويغ الإرادات والاختيارات؛ قال: ليست التطورات سواء، وإنما هي تتفاوت درجات: فمنها ما إذا اعتبر في ذاته بدا راجحا، ومن هذا الفريق ما إذا قورن بغيره فلم ينافه ازداد رجحانا، أو بدا متسقا معه مؤيدا له فازداد رجحانا على رجحان. فالشكاك كلما أقبلوا على شئون الحياة أمكنهم أن يؤثروا رأيا على آخر بناء على رجحانه مع احتفاظهم بارتيابهم في النظر.
هذه الأقوال ما أوهنها وما أيسر تفنيدها؛ إنها تحمل في ثناياها دلائل تهافتها، وتشير بذاتها إلى أسباب فسادها. كيف يتخذ من الخطأ دليلا ضد الحقيقة، والخطأ لا يدعي كذلك إلا بالنسبة إلى الحقيقة المعلومة يقينا؟ دليل على وجود الحقيقة، فليس هو محتوما متصلا. وإذا كنا نخطئ فنحن لا نخطئ دائما، ونحن نصحح أخطاء الحواس بمعارضة حاسة أخرى، وبالتجربة السابقة، وبالعقل والبرهان، ونصحح أخطاء العقل بمعارضة معارفه بعضها ببعض، وبتقدير نتائجها. ومن ذا الذي لم تعلمه الأيام أن الأشياء تختلف عند الحس باختلاف مسافاتها منه، واختلاف أوضاعها، واختلاف وقوع الضوء عليها؟ ومن ذا الذي لا يميز بين إدراك السليم وإدراك المريض، وبين إدراك اليقظان وإدراك الحالم، وبين إدراك العالم وإدراك الجاهل؟ فكل ما يتعين على الفيلسوف وهو ينظر في مسألة الخطأ لا يعدو تعريف الخطأ وتعريف الحقيقة وتحديد الوسائل والمناهج للتمييز بينهما، لا إنكار قدرتنا على إصابة الحقيقة بتاتا لكوننا نخطئها أحيانا.
وليس اختلاف الآراء محتوما متصلا؛ فإن الناس متفقون على أمور كثيرة نظرية وعملية، مجمعون على كثير من الحقائق الواقعية والمبادئ العقلية، ولولا ذلك لامتنع التفاهم بينهم وامتنعت كل حياة اجتماعية، ولا يبدو اختلافهم إلا في الأمور المعقدة والمسائل الدقيقة. وليس الاختلاف دليلا على فساد العقول؛ فقد يكون السبب فيه اختلاف الظروف البيئية والتاريخية، أو اختلاف وجهة النظر: فمن المعقول أن يصطنع كل شعب السيرة التي تلائم أحوال معيشته، فيكون لأهل البلد البحري من الخصائص والعادات غير ما لأهل البلد البري. ومن المعقول أن ينظر كل شعب وكل فرد إلى مصلحته الخاصة، فيكون حكمه حكما حقا من هذا الوجه. وفي الأخلاق نرى اتفاقا على المبادئ العامة، ولا يبرز الخلاف إلا في تطبيقها بسبب الجهل أو الهوى: فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الخير (أيا كان) مطلوب، وأن الشر (أيا كان) مهروب منه، وأن واجب الإنسان السير بمقتضى العقل، وأن العدالة ضرورية عند العقل لابتنائها على المساواة، وأنها لازمة لحياة المجتمع ... وغير ذلك من البديهيات التي إذا جحدت فإنما تجحد بالقول فقط لا بالاعتقاد الباطن. فنحن لا ندعي أن الإنسان يعلم الحقيقة بالضرورة أو أن في مقدوره أن يعلم كل حقيقة، وأن جميع أحكامه صادرة عن العقل السديد، بل نقول إنه كفء لأن يعلم علما يقينا بأن يرجع بأحكامه إلى العقل؛ يردها أو يصححها أو يقرها.
وليس البرهان التام تسلسلا إلى غير نهاية؛ هذا الزعم صادر عن تصور خاطئ هو أن البرهان وحده يولد التصديق، ولكن الحق في هذه المسألة هو أن هناك قضايا بينة بذاتها تتضح النسبة فيها بين المحمول والموضوع حالما نتصورها وبدون واسطة: من ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الكل أعظم من الجزء؟ أو أنه يمتنع إثبات محمول ما لموضوع ما ونفيه عنه في نفس الوقت ومن نفس الجهة ؟ من ذا الذي يحس في نفسه حاجة لبرهان على قضية من هذا القبيل؟ والقضايا التي من هذا القبيل حقائق حاضرة طبعا في العقل، ومبادئ مطلقة تنتهي إليها البراهين ويسكن عندها العقل؛ لأن علة التصديق بها موجودة فيها هي. فكما أن التمييز بين النور والظلمة لا يقتضي شيئا ثالثا، بل يكفي فيه النور نفسه، فكذلك المبادئ الأولية لا يحتاج بيانها لغير نفسها.
وهذا الرد على الحجة الثالثة يفيد في إبطال الحجة الرابعة الزاعمة أن العقل لا يبرهن على صدقه إلا ويفترض نفسه صادقا، وأن هذا دور أو مصادرة على المطلوب. إن اقتضاء برهان على صدق العقل قبل كل تعقل لهو عبث محض. وإنما يلتمس البرهان على صدق العقل في التعقل نفسه، كما يستوثق من صلاح أي آلة باستعمالها. فالعقل حين يزاول فعله الأساسي الذي هو الحكم، سواء كان الحكم بديهيا أم نتيجة استدلال، يدرك مطابقته للموضوع المحكوم عليه، أي يحس ضمنا أنه يدرك أن الموضوع هو كما يحكم عليه. وحين يعود على هذا الإدراك ويدرك هذه المطابقة بالفعل يحس بالفعل أنه كفء لإدراك الحق. فليس البرهان ههنا قياسا حتى يتسلسل من مقدمة إلى أخرى، ولكنه اقتناع بديهي في مزاولة التعقل، وبخاصة، أي بشكل أيسر وأوضح، في التعقل البديهي للمبادئ الأولية.
أما مذهب الرجحان فلم يفد من التقهقر في الشك سوى الإمعان في التناقض. إن الرجحان ابتعاد عن الشك واقتراب من الحقيقة، فإذا لم يكن هناك حقيقة لم يكن هناك رجحان. أو إذا قلنا إن رأيا أرجح من رأي، كان القصد أن للأول من خصائص الحقيقة أكثر مما للثاني، وأننا نعرف خصائص الحقيقة ونستطيع البلوغ إليها. وإذا كانت قوانا الداركة خادعة بالطبع، كما يعتقد الشكاك جميعا، فكيف يسوغ لنا أن نستخدمها ونصدقها في الموازنة بين أسباب الرجحان؟ وهذه الأسباب إن كانت محض تصور كانت عديمة الجدوى في النظر وفي العلم على السواء، وإن كانت مجدية كانت جدواها دليلا ساطعا على مطابقتها لطبائع الأشياء أي على حقيقتها. لقد ظن أصحاب هذا المذهب أنهم يوفرون لأنفسهم ميزة المذهب الاعتقادي دون أن يتقيدوا بمبادئه، فكانوا بهذا الخلف المتصل الذي وقعوا فيه عبرة لمن يعتبر بعبث منهج التخير في الفلسفة وتهافت الحلول الوسطى التي يتوهم ملفقوها أنهم قطفوا من كل شجرة ثمرة ...
الردود السالفة تدفع اعتراضات الشاك. ولكنا لا نقنع بها، ولا نقبل دعواهم أنهم ناقدون معترضون وحسب، بل نريد أن نتحول نحن أيضا إلى النقد والاعتراض من زيادة في جلاء المسألة وفي إيضاح المنهج القيوم الذي يتعين أن تسير عليه الفلسفة في مشكلة المعرفة، فنبين امتناع الشكل المطلق امتناعا باتا، ووجوب البدء باليقين. أما امتناع الشك المطلق فيبدو من ثلاثة أوجه:
Unknown page