والحق أن تريز كانت على جانب عظيم من الغباوة، وكانت لا تحسن شيئا من القراءة والكتابة، وكانت كثيرة الشغب والنزاع، ومع ذلك كان روسو كثير الإعجاب بها، ناظرا إليها بعين الحب، راضيا بجمالها وحسن صوتها، متجاوزا عن عيوبها وفقرها، مغضيا عما يفصله عنها من عبقرية ونبوغ، وقد دامت حاله هذه نحوها اثنتي عشرة سنة.
وتغير حب تريز له مع الزمن، وصارت لا تبالي به ولا تفكر فيه، وطلبت منه الفراق قبل موته بتسع سنين؛ فقد ولدت له خمسة أولاد، وسلمهم إلى ملجأ اللقطاء على مضض من الأم، وذلك من غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، ويعتذر عن ذلك بفقره واضطراره إلى كسب عيشه بكده، وإن كان يهدف في الحقيقة إلى الحياة الحرة الطليقة التي لا تشغل باله بولد، وفي ذلك من الابتعاد عن الإنسانية والمروءة وحس الواجب ما لا يخفى، وقد أراد روسو أن يكفر عن خطيئته هذه التي لا تغتفر بوضعه كتاب «إميل» العظيم الشأن فيما بعد، ومع ذلك فقد وجد من شك في صحة حكاية أطفاله الخمسة تلك ذاهبا إلى أنها دست في «اعترافاته» التي نشرت بعد موته.
وفي اعترافاته تلك يذكر روسو أنه صرح رسميا بزواجه بتريز بعد معاشرته إياها ربع قرن، وقد صرفها بذلك عن طلبها الفراق، فظلت رفيقة له إلى أن مات، وإن لازمها الغم والألم؛ حزنا على أطفالها أولئك.
قلنا إن روسو ذهب إلى باريس، وفي هذه المدينة قضى حياة عسيرة ككتاب ذلك العصر؛ فقد كان يتعيش من استنساخ القطع الموسيقية فيها مع قبوله في رداه المجتمع الراقي، ثم ذهب إلى البندقية سكرتيرا لسفير فرنسة دو مونتيغ.
ويعود روسو إلى باريس حيث أصبح مستخدما لدى الملتزم العام دوبان سنة 1748، وفي ذلك الحين يقدم إلى مدام ديبيناي، ويرتبط بأواصر الصداقة في ديدرو الذي كان من رجال الشعب أيضا فيقضي حياة شاقة مثله في باريس.
وبينا كان ذلك حال روسو في سنة 1749، حين كان ابنا للسابعة والثلاثين نشرت أكاديمية ديجون إعلان مسابقة في موضوع: «هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق، أو إلى إصلاحها؟» وكان صديقه ديدرو في سجن فنسن وقتئذ بسبب «رسالته عن العمي»، فاطلع على ذلك الإعلان حين ذهابه إلى زيارته، فعن له وهو في الطريق أن يشترك في المسابقة، ويكلم ديدرو في الأمر فيشير عليه بالتزام جانب إفساد العلوم والفنون للأخلاق؛ لما في هذا من طرافة وتوجيه نظر، ولما ينطوي التزام جانب إصلاحهما للأخلاق من ابتذال.
أعمل روسو ذهنه وجمع قواه، وكتب في الموضوع فأقام الدليل على أن العلوم والفنون أفسدت الأخلاق، وأوجبت شقاء الإنسان، وادعى أن الترف والحضارة من نتائج العلوم والفنون، وأنهما علة فساد الأخلاق؛ فقال بالرجوع إلى الحال الطبيعية، ومما ذهب إليه في تلك الرسالة كون الثقافة أقرب إلى الشر منها إلى الخير، وكون التفكير مناقضا لطبيعة الإنسان، وكون الفضيلة والأمانة والصدق لا أثر لها في غير الحال الطبيعية؛ حيث لا علوم ولا فنون ... وكتب روسو رسالته تلك بقلم حار وعاطفة جارفة، فجاءت مبتكرة في مجتمع بلغ الغاية في المدنية، مخالفة لما عليه الجمهور، فنال روسو بها الجائزة.
ويعد روسو في رسالته تلك كالمحامي الذي يلتزم طرفا واحدا في المرافعات، فيصعب تصديق جديته في تمثيل دوره، ولذلك لا تتجلى أهمية رسالته تلك في اشتمالها على مذهب إيجابي، بل في كونها مفتاحا لنشوء روسو الذهني، وفي كونها مرحلة مؤدية إلى «العقد الاجتماعي». فالواقع أن هذه الرسالة تحتوي أصل مذهب روسو وعقيدته، ومنها تعلم عداوته للترف والمدنية ونظام الطبقات، كما يعلم منها دفاعه عن الحرية.
ويذيع صيت روسو بتلك الرسالة بعد خمول ذكر، ويعجب بها كتاب، ويحمل عليها آخرون، ويجيب روسو عن النقد الموجه إليه بأنه لم يرد الرجوع بالناس إلى الوراء، وإنما أراد العود إلى الفضائل، والابتعاد عن الترف والرذائل، وسيادة المساواة بين الأنام.
ويرى روسو بعد وضع تلك الرسالة أن يوفق بين سلوكه وما عرضه فيها من مبادئ ويعيش مستقلا، فيترك مكانه مستخدما، ويجعل من نفسه ناسخا للموسيقا.
Unknown page