ويبحث روسو عن عمل يعيش منه، ويستخدم في حانوت حسناء إيطالية، ويطرده زوجها عن غيرة، ويعمل عند أرملة غنية، وتموت هذه السيدة، ثم يصير خادم مائدة في بيت إحدى الأسر النبيلة، ثم يزوره صديق من جنيف فيرافقه ويترك الخدمة مفضلا الحرية على الاستقرار.
ويفرغ كيسه، ويقصد ثانية منزل مدام دوفارنز بمدينة أنسي سنة 1729 ابنا للثامنة عشرة، فيرحب به، ويقضي في هذه المدينة حياة سعادة، يقضيها في القراءة والدراسة، وترسله مدام دوفارنز إلى إحدى المدارس لإتقان اللاتينية فيقرر أساتذته عدم صلاحه لهذا، ويسافر إلى ليون بعد شتاء يقضيه في منزل تلك السيدة، ويلقى حياة قاسية في ليون، ويعود إلى ذلك المنزل فيجد مدام دوفارنز مسافرة، ويسأل فلا يعرف أين تقيم، ولا متى تعود.
ومن المصادفات أن لاقى في أنسي خادمة جاءت للبحث عن مداد دوفارنز فلم تعلم أين هي أيضا، ويسافر مع هذه الخادمة إلى قرية فريبرغ حيث يقيم أبوها، ويمر في طريقه على أبيه في قرية نيون، ويتعانقان، ولا تحسن زوج أبيه قبوله، فيداوم على سفره إلى قرية فريبرغ، ولا يحسن أبو الخادمة استقباله، فيتوجه إلى مدينة لوزان معسرا كسيرا.
وفي لوزان يزعم أنه أهل لتعليم الموسيقا مدعيا أنه تعلمها في باريس؛ مع أنه لم يرها حتى ذلك الحين، وهو على ما كان من كلفه بالموسيقا كان جاهلا لها، فيمنى بحبوط ذريع.
ويغلب الغموض على تاريخ تلك المغامرات التي حدث عنها في «اعترافاته»، ولكنها وقعت في ثلاث سنين كما يظهر ، فلما حلت سنة 1731 ذهب إلى مدينة بودري فوجد في أحد فنادقها قسيسا يحدث بلغة لا يعرفها غير روسو، فاتخذ روسو ترجمانا له، وصار يجوب معه بلادا كثيرة حتى انتهيا إلى سولور، فأعجب السفير الفرنسي فيها بروسو وجعله موضع رعايته، ويرسله إلى باريس مع ضابط صغير، ويعتريه سأم من باريس ومظاهرها، ويعلم نبأ عودة مدام دوفارنز إلى أنسي ويرجع إليها.
بلغ ليون خاوي الوفاض، فأخذ ينسخ قطعا من الموسيقا، وظل يصنع هذا أياما حتى تلقى كتابا من مدام دوفارنز تدعوه فيه إلى مدينة شانبري، فلبى الدعوة غير آسف على ليون؛ لبعدها من الحياة الريفية، وقد بقي محل رعاية مدام دوفارنز، وقضى حياة هدوء عندها سنين كثيرة؛ سواء أفي شانبري أم في شارمت، وفي هاتين المدينتين أمعن روسو في دراسة شتى العلوم فكان لذلك أبلغ الأثر في كتابة رسائله وكتبه القادمة.
وفي سنة 1738 يصاب روسو بمرض شديد، ويرسل إلى كلية مونبليه للمعالجة، ولم تحسن مدام دوفارنز استقباله بعد شفائه لاشتعال قلبها بغرام حبيب آخر، وما بذله روسو من جهود كثيرة لإقصاء هذا المنافس كان على غير جدوى.
وفي سنة 1740 سافر إلى ليون حيث مكث عاما، وحيث اتخذ مربيا لأبناء حاكم ليون الأكبر دومابلي، ثم عاد إلى شارمت عن شوق إلى مدام دوفارنز، فكان قبولها له حسنا على غير ما ينتظر، ولكن مع بقاء الحبيب المنافس محتلا للمكان الأول من فؤادها، فعزم على السفر إلى باريس.
ذهب إلى باريس سنة 1741 بالغا التاسعة والعشرين من سنيه، ونزل بفندق سان كنتان الوضيع، وقد كان ذا مزاعم في الموسيقا، وقد جد في كسب عيشه من هذا الفن، فعرض في سنة 1742 على مجمع العلوم منهاجه فيها فلم يجده هذا المجمع جديدا ولا نافعا، فرده، غير أن النجاح إذا لم يكن حليفه في هذا الحقل كانت له تعزية بما اتفق له من اتصال برجال العلم والأدب والفلسفة في باريس وانتفاعه بمعارفهم.
وفي ذلك الفندق وقع نظر روسو على فتاة ريفية اسمها تريز لوفاسور بالغة من العمر اثنتين وعشرين سنة، وكانت هذه الفتاة تعمل خادمة فيه، وكانت من أهل أورليان، وقد رق روسو لها؛ لما رأى من هزوء الناس بها؛ لبساطتها وبلهها، فاتخذها رفيقة له عن حب وعاطفة، وغادرا الفندق، وقد دامت حياتهما معا ستا وعشرين سنة.
Unknown page