ولم أدع فرصة للخير لم أجربها لتجنيب البلاد ويلات الحرب، فقابلت الملكة الأم تيى، وقالت لي بحرارة: إني حزينة أيها الكاهن الأكبر.
فقلت بمرارة: لم أعد كاهنا أكبر، لست إلا شريدا مطاردا ...
فقالت ملعثمة: إني أسأل الآلهة أن تمدنا برحمتها.
فقلت لها: لا بد من العمل، إنه ابنك، وهو يحبك، وإنك تتحملين تبعة لا يستهان بها فيما انتهت إليه الأمور، فبادريه بنصحك قبل أن تنشب حرب أهلية لن تبقي على شيء ...
فقالت بامتعاض لتذكيري لها بمسئولياتها فيما حدث: لقد قررت السفر إلى العاصمة الجديدة أخت آتون ...
ولا أنكر أنها بذلت جهدا، ولكنها لم تستطع أن تصلح ما أفسدت. ولم أستسلم لليأس، فسافرت بنفسي مجازفا إلى أخت آتون، واجتمعت بالرجال وقلت لهم: إني الآن أتكلم من موقع القوة، وورائي رجال ينتظرون إشارة للانقضاض عليكم، ولكني آثرت أن أحاول محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون سفك دماء أو خراب، وسأترك لكم مهلة لتؤدوا واجبكم وترجعوا إلى ضمائركم ...
وقرأت في وجوههم الاقتناع بما قلت، وبصرف النظر عن دوافعهم الحقيقية فقد أدوا ما طالبتهم به، وجنبوا البلاد شر ويلات كثيرة. قابلوا المارق المجنون، وطالبوه بأمرين عاجلين؛ إعلان الحرية الدينية، وإرسال جيش للدفاع عن الإمبراطورية. ولكنه رفض معلنا بذلك جنونه على الملأ. وعند ذاك طالبوه بالتنازل عن العرش، وله أن يحتفظ بعقيدته، بل وأن يدعو إليها كيفما شاء، ولكنه رفض أيضا. غير أنه عين أخاه سمنخ رع شريكا له في العرش، فتجاهلنا أمره، واخترنا توت عنخ آمون ليجلس على العرش مختارا منا. وبإزاء عناد المجنون قرر الرجال هجره وهجر مدينته، وإعلان ولائهم لفرعون الجديد؛ بذلك تغيرت الدولة بلا حرب ولا خراب، وفي نظير ذلك عدلنا عن الانتقام من المجنون وزوجته، ومن أبقى على الوفاء له من رجاله.
وفتحت المعابد أبوابها، وهرع إليها المؤمنون بعد حرمان طويل، وانقشع الكابوس، ومضى كل شيء يعود إلى أصله على قدر الإمكان. أما المارق فبعد أن شبع جنونا أدركه المرض، وما لبث أن مات خائب المسعى في الدنيا، وفاقد الأمل في العالم الآخر، مخلفا وراءه زوجته الشريرة تعاني الوحدة والهجر والندم.
وصمت الرجل طويلا وهو يرنو إلي، ثم قال: نحن نضمد جراحنا، يلزمنا عمل كبير وشاق، خسارتنا في الداخل والخارج أكبر من أن يحيط بها حصر. كيف حدث هذا؟! ... كيف أتيح لمجنون مشوه أن يفعل بنا ذلك كله تحت سمع العقلاء وبصرهم؟!
وتريث قليلا ثم خاطبني قائلا: لقد كشفت لك عن الحقيقة خالصة بلا تزويق ولا تشويه، فسجلها في دفترك بأمانة، وأبلغ تحياتي والدك.
Unknown page