آي
هو الحكيم، أبو نفرتيتي وموت نجمت، ومستشار المارق. حفر الكبر أخاديد في وجهه وسكن فيها. استقبلني في قصره المطل على النيل في جنوب طيبة. جرى حديثه في هدوء وبصوت منخفض، ودون أن ينبض وجهه بأي انفعال. وقد أثر في وقاره وعمره المديد وما يطوي في صدره من تاريخ حافل. بدأ حديثه بقوله: ما أعجب الحياة، إنها سماء تمطر تجارب متناقضة.
وتفكر مستغرقا بفيض من الذكريات ثم قال: التحمت بالأحداث في يوم من أيام الصيف، دعيت إلى مقابلة الملك أمنحتب الثالث والملكة العظمى تيى، ولما مثلت بين يديهما قالت لي الملكة: يا آي، أنت رجل حكيم، تعرف أجمل ما في الدنيا والدين، قررنا أن نعهد إليك بتربية ابنينا تحتمس وأمنحتب ...
فحنيت رأسي الحليق وقلت: سعيد من يحظى بخدمة مولاه ومولاته.
وكان تحتمس في السابعة، وأمنحتب في السادسة. وكانا جد مختلفين لحد التضاد؛ فتحتمس قوي وسيم قصير القامة، وأمنحتب ضعيف البنية، غامق السمرة، طويل القامة، أنثوي القسمات، وذو نظرة رقيقة وغازية معا، تلتصق بالنفس بعمق. وما لبث أن مات الصبي الجميل، وبقي الضعيف الغريب. وهز الموت الصبي الحي هزة عنيفة جدا. بكى طويلا، وكلما خطرت ذكرى بكى من جديد. وقال لي: كان يزور معبد آمون، ويتلقى الرقى والتعاويذ، ولكنه مات ...
وقال لي أيضا: وأنت الحكيم المعلم، فلم لا ترد إليه الحياة؟
وقلت له: إن الروح تقول للميت: «ألق عنك هذا الحزن أيها الأخ، إنني باقية.»
وجرنا ذلك إلى حديث عن الحياة والموت، وشد ما أدهشني بإدراكه ووجدانه! كان يفوق سنه بأجيال. وساءلت نفسي: أي صبي هذا؟! أجاء معه من المجهول بأقباس من حكمة الغيب؟ وقد أتقن مبادئ القراءة والكتابة والحساب بسرعة مذهلة، حتى قلت مرة للملكة تيى: إن تفوقه ليخيف معلمه.
وكنت أهرع إلى درسه بشغف وشوق وسرور، وأتخيل ما يصدر عن عقله من عجائب إذا ما اعتلى يوما عرش أجداده. سوف يتفوق على والديه رغم عظمتهما.
أجل، كان أمنحتب الثالث ملكا عظيما، بدارا لتأديب العصاة، مقبلا وقت السلم على الطعام والشراب والنساء في عصر عرف بالرخاء، وقد أنهكه ذلك قبل الأوان فوقع في أسر العلل، وفسدت أسنانه، فكدرت صفو أيامه الأخيرة. أما تيى فكانت من أسرة نوبية كريمة، وشهدت لها الأيام بالقوة والحكمة حتى بزت حتشبسوت نفسها. وبسبب من غرام زوجها بالنساء، ولموت بكرها تحتمس ولعت بالصبي الضعيف المعجزة ولعا خرق المألوف؛ فكانت له الأم والحبيبة والأستاذ. وكانت تحب الحكم أكثر من الحب؛ فضحت بقلبها في سبيل السلطة. وقد اتهمها الكهنة ظلما بأنها المسئول الأول عن انحراف ابنها الديني، ولكن الحق أنها أرادت أن يلم ابنها بديانات آلهة بلاده جميعا، وكانت تحلم بأن يحل آتون محل آلهة الإمبراطورية باعتباره الشمس التي تنفث الحياة في كل مكان، فتؤلف بين رعاياها برابطة الدين القوية، لا بدافع القوة وحدها. كانت ترمي إلى وضع الدين في خدمة السياسة من أجل مصر، ولكن ابنها آمن بالدين دون السياسة بخلاف ما قصدت، وأبت طبيعته أن يجعل الدين في خدمة أي شيء، وأن يجعل كل شيء في خدمة الدين. الأم طرحت سياستها عن وعي وتدبير، ولكن الابن صدق وآمن وكرس حياته لرسالته حتى ضحى بوطنه وإمبراطوريته وعرشه.
Unknown page