عادت أسماء إلى الجبل حيث تركت جوادها وخادمها وخلعت ثيابها وركبت إلى أنطاكية لا تستريح ليلا ولا نهارا.
فأشرفت عليها من جبلها الشرقي، وأطلت على البحر فلمحت شيئا كأنه سفينة حجبها البعد عنها، فخفق قلبها سرورا وهبطت من الجبل، حتى إذا دنت من المدينة سمعت دق الأجراس دقا بطيئا متقطعا، فقالت في نفسها: «لعلهم يحتفلون بقدوم البطريرك.» ولكنها لم تكد تسير في الطريق الكبير حتى رأت الناس محتشدين يتقدمهم رهط من الأكليروس بالمباخر، فعلمت أنه احتفال بجنازة.
ولا تسل عن حالها لما علمت أنها جنازة القسيس مرقس، وقد مات بعد وصوله إلى أنطاكية بيومين، فإنها لطمت وجهها وندبت سوء حظها ، وذهبت توا إلى الخان وأقفلت باب غرفتها وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وجعلت تعدد ما أصابها من الإحن منذ ولادتها، وكم قاست من المصائب! وكم عانت من الأخطار! حتى إذا دنا وقت سعادتها وآن لها أن تعرف أباها داهمها القدر بالفشل الذريع.
وتذكرت مروان وما قاست من البلاء بسببه، وتذكرت عذابها في الصحراء بين مكة والبصرة، وما قاسته على أثر ذلك. وغرقت في تيار هواجسها، وتحققت سوء حظها، وتمنت أن تموت فتخلص من العذاب. ولما تمنت ذلك أجفلت وندمت لأنها تصورت محمدا وحبه لها وما ترجوه من السعادة بقربه، فقالت: «لا، لا أموت بل أحيا لأجل حبيبي وأقصى مرادي، وهو تعزيتي الوحيدة في هذا العالم. فإذا خسرت الدنيا كلها وفاتني كل نعيمها وحصلت على محمد بن أبي بكر، فذلك يكفيني.»
وبعثت خادمها يستطلع مكان التحكيم وزمانه، فأنبأها أنه سيكون في «أذرح» في أطراف الشام من أعمال السراة بنواحي البلقاء وعمان في زمن معلوم، فلما دنا الأجل تنكرت وسارت تلتمس أذرح والخادم معها.
الفصل العشرون
حكم الحكمين
ولما جاء الأجل المعين لتلاوة حكم الحكمين بعث علي أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل ومعهم عبد الله بن عباس، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، والتقوا بأذرح. وكان عمرو بن العاص قد استعان بكل دهائه في إقناع أبي موسى بأن يوافقه على خلع علي وتولية معاوية لأنه المطالب بدم عثمان، فلما لم يفلح ذكر له تولية أحد أبناء الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير. وبعد جدال عنيف اتفقا على خلع علي ومعاوية، وأن يختار المسلمون واحدا غيرهما بالشورى. وكان من دهاء عمرو أنه ما زال يدافع أبا موسى في الكلام، حتى طلب هذا خلع الاثنين فأصبح هو البادئ في الكلام عند إصدار الحكم.
فلما جاء اليوم المعين واجتمع الناس من الأقطار، وصلت أسماء أيضا في ذلك اليوم. فوقفت بين الناس بحيث لا يعرفها أحد، فرأت أبا موسى وابن العاص في مجلس علي، وبقية الناس في جانب آخر كأن على رءوسهم الطير ينتظرون ما يكون من الحكم.
فوقف أولا أبو موسى فأصغى الناس لمقاله، فقال بصوت عال يسمعه الحاضرون: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس من أمرهم من أحبوا. وإني قد خلعت عليا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتموه أهلا.»
Unknown page