وحيثما رجعت الفتنة إلى مطامع العنسي وأمثاله من المشعوذين الطامحين إلى الصولة فقد بدأت طلائعها من أيام النبي عليه السلام في أنحاء متفرقات من الجزيرة؛ لأن هؤلاء المشعوذين لم يفهموا الإسلام ولم يعقلوا قط أنه دعوة إصلاح لخير الناس، وكل ما عقلوه أنه حيلة كاهن أفلحت فحق لهم أن يطمعوا في الفلاح؛ لأنهم كهان لا تعوزهم وسائل السحر وحبائل الخديعة. فتطلعت رءوس الفتنة من هنا وهناك والنبي عليه السلام بقيد الحياة، إلا أنها لم تتفاقم ولم تبلغ مداها من الانتشار في حياته عليه السلام.
ولكنها تجمعت إلى يوم الرجة التي ارتجتها الجزيرة العربية بعد فراقه هذه الدنيا، وهي رجة لا محيص عنها. فما كان معقولا ولا منظورا أن يحدث هذا الحادث الجلل بغير رجته التي تقترن به لا محالة، وإذا وقعت الرجة فما كان معقولا ولا منظورا أن تقع على غير هذا المثال.
وغاية ما يفهم من هذه الرجة التي لا غرابة فيها أنها الأثر المعقول المنظور لمطامع الطامعين وخلائق الأعراب وذوي الجهالة من أهل البادية في كل جيل. فما عرف التاريخ قط أناسا منقطعين للبداوة الأولى إلا عرف منهم الاستعداد لأمثال هذا الانتقاض كائنا ما كان الدين الذي ينتحلونه والزمن الذي قضوه في انتحاله. وربما مضت مئات السنين على قبيلة من البادية المغرقة في البداوة وهي تدين بالمسيحية أو الإسرائيلية ثم تنقلب مثل انقلاب الردة في رجة من الرجات النفسية أو الاجتماعية التي تشبهها، ولا يستغرب العالمون بطبائع الناس هذا الانقلاب بعد مئات السنين كما استغرب أناس أن ينقلب بعض أهل البادية على الإسلام أو على دولة الإسلام، ولما ينقض على دخولهم فيه عشر سنين.
على هذه الحقيقة أن تفهم فتنة الردة إنصافا للتاريخ إن لم يكن إنصاف الدعوة المحمدية مما يعني أولئك المستغربين.
ولإنصاف التاريخ ينبغي أن تفهم هذه الفتنة على أنها أصدق امتحان للدعوة المحمدية خرجت منه دعوة من الدعوات.
فإذا كانت فتنة الردة قد كشفت عن زيغ الزائغين وريبة المرتابين فهي قد كشفت كذلك عن الإيمان المتين والفداء السمح واليقين المبين فحفظت للناس نماذج للصبر والشجاعة والإيثار والحمية تشرق بها صفحات الأديان، وجاءت الشهادة الأولى على لسان رجل من أصحاب طليحة سأله: ويلكم ما يهزمكم؟ فقال له: أنا أحدثك ما يهزمنا. إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه!
وقد امتحنت دعوة الإسلام وامتحنت جميع الدعوات التي نهضت لمنافسته بقوة السلاح وقوة الدهاء وقوة العصبية فقضت له بالبقاء وقضت عليها بالفناء. ولو كان نجاح الدعوة الإسلامية نجاح سلاح أو دهاء أو عصبية لقد كان أصغر متنبئ من أدعياء الردة خليقا أن يطمع في مثل ذلك النجاح؛ لأنهم بدءوا دعوتهم ومعهم من جموع القبائل التي تعتز بعصبياتها ما لم يتهيأ لصاحب الدعوة المحمدية قبل عدة سنين، وصدقهم أناس كانوا يقولون: إن نبيا كاذبا منهم خير من نبي صادق من مضر أو قريش.
وأصدق من هذا كله في امتحان الدعوة المحمدية أنها خرجت من فتنة الردة وهي بشهادة الواقع والحق بنية حية تسير على سنن الحياة الصحيحة التي لا زيف فيها ولا اصطناع: يعرض لها الخطر من أسبابه، وتعرض لها السلامة من أسبابها، وتنجو كما تنجو البنية الحية القوية حيثما تجمعت فيها عناصر النجاة.
فليست هي جسما محجبا بالأوهام كما زعم طليحة الكذاب لجسمه أنه لا يعمل فيه السيف ولا تصيبه السهام. ولكنها جسم صحيح يعمل فيه السيف وله مع ذلك ما يدفع الطعن ويبرئ من الجراح.
ولا شك أن المسلمين لم يواجهوا جوانب الخطر كلها في حروب الردة دون المرتدين الذين أشعلوا الفتنة وصلوا بنارها. فقد كانت حروب الردة فتنة كجميع الفتن التي لا يؤمن خطرها على الفريقين المشتركين فيها، فكان فيها جانبها الخطر على أهل الردة كما كان فيها جانبها الخطر على الإسلام. وما كان منها خطرا على فريق فقد كان فيه للفريق الآخر أمان.
Unknown page