وقد كان أمانها على الإسلام أن المرتدين متفرقون لا تؤلف بينهم وحدة معلومة المقاصد في السياسة ولا في الدين، وأنهم هددوا المدينة بجموع البادية فأثاروا فيها سليقة الدفاع ووحدوا بين صفوفها وهي موشكة أن تتصدع بين الشيع والأهواء. فعلم أهل المدينة كما علم أهل مكة أنهم مهددون بجائحة من البادية لا يطمئون بعدها إلى مصير، وهبوا يتعاونون ويتكاتفون لاتقاء تلك الجائحة سواء من بايع الخليفة ومن تثاقل عن البيعة في أوائلها. وتقدم على رءوس المدافعين أناس كانوا في يوم البيعة متخلفين، وجرى القضاء بوقوع أهل الردة في خطأ من أخطاء العجلة كان فيه نفع - أي نفع - للمسلمين. فهجموا على المدينة مغترين بكثرتهم وقلة المدافعين عنها، ولم يحسنوا الأهبة للهجوم كما أحسن المسلمون الأهبة للدفاع. فثارت حمية الأنصار والمهاجرين معا للدين الذي آمنوا به، وثارت حميتهم معا للجوار الذي روعوا فيه، وكانت هذه الهجمة وبالا على الردة وفاتحة من فواتح الهزيمة، ولو أنهم قنعوا بالبقاء في باديتهم والتوغل في صحرائهم لقد كان ذلك أدنى إلى الحزم من ناحيتهم، وإن لم يكن حتما لزاما أن يفضي بهم آخر الأمر إلى النجاح.
وزاد في بواعث الطمأنينة إلى جانب المسلمين أن عاد جيش أسامة سالما موفورا ولما ينقض على مبعثه شهران على أرجح الأقوال: عاد بالأسلاب والغنائم من تخوم الروم ولم يقتل منه أحد ولا بدا عليه عناء أو مشقة مما كان فيه، ولا تجهل قبائل البادية ما هي دولة الروم التي اجترأ الجيش على تخومها في غير مبالاة. إنهم يعلمون ما هي دولة الروم بالعيان أو يعلمون ما هي دولة الروم بتهويل السماع، وجيش يذهب إلى تخوم تلك الدولة ثم يعود غير مسحوق ولا منقوص بل يعود بالغنائم والأسلاب، كيف تستخف به قبيلة هائمة في عرض صحراء؟ وكيف تخفى دلالة هذا الحادث على أناس اشتهروا بتنسم الأخبار كما اشتهروا باستطلاع الدلائل على القوة والضعف وعلى الخطر والأمان؟
إن جيش أسامة قوة ذات بال في الجزيرة العربية، ولكنه فعل بسمعته ومعناه ما لم يفعله بقوته وعدده. فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال وقبل أن يصنع السلاح. •••
تلك فتنة الردة بجملتها، وبجانبي الخطر والسلامة فيها.
قابلها أبو بكر رضي الله عنه بأحزم ما تقابل به من مبدئها إلى منتهاها، وعالجها علاجها في كل خطوة من خطواتها وكل ناحية من نواحيها.
فبادرها بالحزم من صيحتها الأولى، وتعقبها بالحزم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى أسلمت مقادها وثابت إلى قرارها.
وأحزم الحزم في تلك الفتنة عقابه للمرتدين الذين مردوا على العصيان ولم يستجيبوا نصيح المودة ولا استجابوا نذير الجزاء؛ فقد كان العقاب أليق شيء بالوزر الذي اجترموه ومردوا عليه: أناس قد استوهنوا سلطان الدين وبخلوا بالمال فبلغ من شحهم به أنهم أنكروا حقوق الدين كله في سبيل حصة من الزكاة، فجزاؤهم أن يشهدوا من بأس ذلك السلطان ما يعتبرون به ولا ينسونه مدى الحياة، وأن يفقدوا المال الذي من أجله تبادروا إلى الفتنة واستبقوا إلى العصيان. فاستبيحت ديارهم ومراعيهم ومساقيهم ووهبت عطايا للمجاهدين، ولان خالد في بعض المواقع وأبو بكر الوديع الرفيق لا يلين، ووضع القصاص فيمن تجاوزوا منع الزكاة إلى قتل المسلمين بين ظهرانيهم، فلم تأخذه فيهم هوادة بعد إصرارهم على العصيان واعتدائهم بالقتل وإعراضهم عن النصيح والنذير جزاء حق؛ لأنه من جنس العمل.
استهانة يقابلها بأس، وبخل بالمال يقابله ضياع للمال، ونفس بنفس، ومجاهدون مخلصون يؤثرون الإيمان على عروض الدنيا أخذا بثأرهم من عصاة غادرين يؤثرون عروض الدنيا على الإيمان. •••
قال أبو رجاء البصري: «دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلا يقبل رأس رجل ويقول له: أنا فداؤك، ولولا أنت لهلكنا، قلت: من المقبل ومن المقبل؟ قالوا: هو عمر يقبل رأس أبي بكر في قتال أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين.»
وأبو رجاء من ثقات الرواة، وكلا الرجلين جدير بما روي عنه من مودة وإكبار، عمر جدير بإكبار أبي بكر، وأبو بكر جدير بإكبار عمر إياه، فالخبر صحيح أو هو كالصحيح، إن لم يكن فهو حري أن يكون.
Unknown page