وقلما تشعر بالكون بيتا لأسرة، ومعملا لباحث، ومتحف فن، ومضمار سباق في وقت واحد. إنما هي حالة من هذه الحالات تجب سائر الحالات، وقد تلحقها بها إلحاق التابع بالمتبوع والمساعد بالعامل الأصيل.
محمد بن عبد الله كانت فيه هذه الطبائع جميعا على نحو ظاهر في كل طبيعة: كان عابدا ومفكرا، وقائلا بليغا، وعاملا يغير الدنيا بعمله ولكنه عليه السلام كان عابدا قبل كل شيء، ومن أجل العبادة - قبل كل شيء - كان تفكيره وقوله وعمله، وكل سجية فيه.
تهيأ للعبادة بميراثه ونشأته وتكوينه فولد في بيت السدانة والتقوى، وتقدمه آباء يؤمنون بإيمانهم، ويعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه.
ونشأ يتيما من طفولته فانطوى على نفسه، وتعود التأمل والجد والعزوف عن عبث الصغار، والنظر إلى ما حوله بعين الناقد المترفع عن الدنايا، الجانح إلى الطهر واستقامة الضمير.
وتكون في بنيته عابدا من صباه ...
قيل إنه في الثانية أو الثالثة من عمره قد أدركته حالة يختلف شراح التاريخ في تفسيرها، ويرويها من سمعوا بها على روايات مختلفات لا ندري ما هو الواقع الصحيح منها، ويتعجل بعض المؤرخين الأوروبيين فيحسبها ضربا من الصرع على غير سند علمي أو تاريخي محقق يستند إليه.
كل ما يمكن أن نجزم به من هذه الحالة أو من غيرها أن محمدا قد تكون ليتلقى الوحي الإلهي، وأن لهذا التكوين استعدادا لا بد أن يلحظ من أوائل صباه، لأن البنية الحية لن تتهيأ له في أيام ولا في أشهر ولا في سنوات، ولن تستطيعه إلا إذا تمت أهبتها له والمولود في صلب أبيه، ولا نقول في المهد أو في الرضاع.
فمن الأقوال المتواترة أنه كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه، وكرب لذلك وتربد وجهه، وأخذته البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي، وسمع عند وجهه كدوي النحل، وقد يصدع فيغلف رأسه بالحناء. وقد شاب فقال: «شيبتني هود وأخواتها.» وعدد حين سئل عن أخواتها سورا أخرى من القرآن الكريم، وليس هذا من خليقة كل بنية إنسانية: إنما هو خليقة البنية التي تتلقى وحيا وتستوعب سرا وتهتز لنبأ عظيم.
صفة العابد
وكانت أوصافه في غير حالة الوحي توافق الاستعداد الذي يرشحه لتلقي الوحي والنبوة، فكان حسا كله وحياة كله. يراه من ينظر إليه فيرى فؤادا يقظا يتنبه لكل خالجة نفسية وكل نبأة خفية، يسرع في مشيته، ويلتفت فيلتفت بكل جسمه، ويشير فيشير بكل كفه، ويفكر فلا يزال يطرق إلى الأرض أو يرفع بصره إلى السماء، ويدعو فيرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، ويغضب فتحمر عيناه ووجنتاه، ويمتلئ عرق جبينه، وينام وقلبه يقظ لا ينام؛ حس مرهف يدني إليه ما وراء الحجاب، ويوقظ سريرته لأخفى البواطن، ويجعله أبدا في حالة قريبة من حالة الوحي حيثما هبط الوحي عليه.
Unknown page