وأجهل الناس بخلائق عمر من يجمح به الوهم إلى ظن من هذه الظنون فليس بين رجال التاريخ جميعا من هو أصعب تخطئة من عمر بن الخطاب؛ لأنه ليس بينهم جميعا من هو أشد حسابا لنفسه ومراجعة لنياته منه، وأغلب الظن عندنا أنه لو أحس في نفسه نية ذحل أو ثأر قديم لكان أثر هذا الإحساس أن يؤجل عزل خالد ولا يعجل به مخافة من خدعة نفسه وتضليل هواه.
فالحق أن حساب عمر لخالد لم يخالف قط حسابه لجميع ولاته ... فكذلك صنع بعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص، وكذلك صنع بكل وال أحصى ماله فظهرت فيه الزيادة، وقد عزل زياد بن أبيه ثم قال إنه عزله «لأنه كره أن يحمل على الناس فضل عقله» وكان يحسب أنه قادر على أن يسوق العرب بعصاه لو أنه من قريش، ولقد تبين بعد أنه من قريش. •••
وكانت سياسة عمر مع الولاة جميعا أن يراجعوه في الأموال، وبذلك أشار على أبي بكر فوافاه الحساب من كل وال إلا خالدا أبى وأغلظ له في الجواب حيث قال: «إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك.»
فلما بويع عمر كتب إلى خالد أن يراجعه في حساب المال وألا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره، فأحاله إلى ما جرى به العمل قبله، فلم يطقها عمر وقال: «ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه.»
هذا إلى الخلاف بين سنن عمر في سياسة الناس وتصريف الشئون وسنن خالد التي طبع عليها. فعمر كان يحب الأناة قبل القتل والقتال ومن ثم كان إنكاره لمقتل بني جذيمة ومقتل مالك بن نويرة، وعفوه عن أسرى السواد خلافا لما صنع بهم خالد في معركة «أليس» أو «نهر الدم» كما سميت بعد ذلك. وقد حرم عمر «قيس بن سليط» أن يقود جيشا هو كفء لقيادته قائلا له: «لولا أنك رجل عجل في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.»
وإذا كان عمر قد أوجس من عقل زياد بن أبيه وهو مجهول النسب، فالفتنة باسم خالد أعظم وأخطر، إنه لعظيم النزعة إلى الاستقلال، وإنه لمن بني مخزوم وهم أقوى قبائل قريش منفردين، وله صهر في سائر القبائل والبطون ولأبنائه أخوال في بني تميم وبني حنيفة، ولشهرته سحر في نفوس الناس يفعل الأعاجيب، وللزهو مكان من طباع خالد يحسب حسابه ولا ينساه الخليفة المسئول عن عواقب الأمور في دولة الإسلام فقبل أن يقهر خالد دولة الأكاسرة ودولة القياصرة رجع إلى المدينة يوما فإذا هو يغرز في عمامته السهام ويدخل المسجد بدرع قتال ... فبعد غلبته على الأكاسرة والقياصرة وشيوع ذكره في الأمصار، ماذا يجرى لو وهن الحكم يوما بعد «ابن الخطاب»؟
أما و«ابن الخطاب» حي فلا. كما قال خالد. ولكن ابن الخطاب لا يدوم، والعواقب لا تنكشف، وعزل خالد نقص يعوضه قادة آخرون من حقهم أن يعملوا كما عمل، ومن أثرهم أن يثوب الناس إلى العقيدة وحدها فلا يحسبوا أن النصر رهين برجل واحد لا يرتهن بغيره. •••
أما الاحتمال الآخر - إن حدث - فالخطر فيه عظيم والموازنة بينه وبين كل عاقبة يعقبها عزل خالد لا مجال فيها لتردد طويل.
وهذا كله فضلا عن مرد العزل إلى القسطاس الذي يرد إليه حساب جميع القواد والولاة، ولم يفت ذلك خالدا بعد هدوء الغضب والمثوبة إلى الرأي، فقال في مرض وفاته لأبي الدرداء: «قد كنت وجدت عليه في نفسي في أمور لما تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفت أن عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث إلي من يقاسمني مالي حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، فرأيته فعل ذلك بغيري من أهل السابقة ومن شهد بدرا، وكان يغلظ علي وكانت غلظته على غيري نحوا من غلظته علي، وكنت أدل عليه بقرابة فرأيته لا يبالي قريبا ولا لوم لائم في غير الله. فذلك الذي أذهب ما كنت أجد عليه، وكان يكثر علي عنده وما كان ذلك إلا على النظر - كنت في حرب ومكابدة وكنت شاهدا وكان غائبا فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك من أمري.»
ولقد توفى رحمة الله وهو يجعل وصيته وتركته وإنفاذ عهده إلى عمر بن الخطاب ...
Unknown page