90

فعظم هذا البذل على الفاروق وكتب إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمهم من أين أجاز الأشعث، هل من مال الله أم من ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنه من إصابة أصابها فقد أقر بالخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأمر أبا عبيدة أن يعزله على كل حال وأن يضم إليه عمله - وكان يومئذ يولى أمور قنسرين - وأن يقاسمه ماله نصفين ...

فصدع أبو عبيدة بالأمر، وجمع الناس وجلس على المنبر، ودعا بخالد فسأله: يا خالد ... أمن مالك أجزت عشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجب وأبو عبيدة يعيد السؤال مرة بعد مرة، فوثب إليه بلال مؤذن النبي - عليه السلام - وقال له: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول عمامته ونفضها وعقله بها وخالد لا يمنعه، وسأله: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ فقال: لا، بل من مالي، فأطلقه وعممه بيده وهو يقول: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.

ثم قوسم ماله حتى بقيت نعلاه، فقال أبو عبيدة: إن هذا لا يصلح إلا بهذا فقال خالد: أجل، ما أنا بالذي أعصي أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك.

ولما علم خالد بعزله، ذهب إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودعهم ثم ذهب إلى حمص فخطب أهلها وودعهم وقال في بعض خطبه: «إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية وعسلا عزلني وآثر بها غيري» فنهض له رجل من السامعين فقال: صبرا أيها الأمير، فإنها الفتنة. فما تردد خالد أن قال: أما وابن الخطاب حي فلا.

ثم قصد إلى المدينة فلقي الفاروق فقال له: «لقد شكوتك إلى المسلمين. وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر ...» فسأله الفاروق: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان. ما زاد على الستين ألفا فلك «فزادت عشرون ألفا فضمها إلى بيت المال، ثم قال له: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد على شيء» وأرسل إلى الأمصار يأمر الولاة أن يعلنوا فيها باسمه: «إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فتنوا به فخشيت أن يوكلوا إليه ويبتلوا، وألا يكونوا بعرض فتنة.» •••

تلك قصة خالد والفاروق ...

وهي قصة تؤلم وتؤسف، إلا أن الألم والأسف فيها من فعل الضرورة التي لا محيد عنها، وليسا من فعل خالد ولا فعل الفاروق ...

ومن الحق للرجلين العظيمين أن نفهم هذه القصة على حقيقتها المبرأة من الخلط والجهالة؛ لأن فهمها على حقيقتها موصول بتقدير الحالة كلها وموصول بتقدير الخليفة العادل وتقدير القائد الكبير.

وأبعد شيء عن هذه الحقيقة أن يكون عزل خالد لضغينة في نفس عمر أو لتلك المنافسة التي تستحكم بين الأشباه والنظراء، أو لغير سبب من تلك الأسباب التي كان عمر يحاسب بها جميع القادة والولاة ...

وأسخف من هذه الظنون أن يسبق إلى الوهم - كما سبق إلى وهم بعض المؤرخين - أن عمر قد عزل خالدا لبغضاء قديمة مرجعها إلى الصراع بينهما في أيام الصبا، وأن خالدا صرع عمر وكسر ساقه فلم يزل بقية حياته واجدا عليه ...

Unknown page