فبان الحزن على وجه الطبيب، وقال بصوت خافت: مولاي ، قد لا يمتثل الطبيب لأمر مولاه أحيانا.
فاشتد الغضب بالملك وقلب عينيه الزائغتين في وجوه الواقفين الواجمين، وصاح بهم: ألا تسمعون ما يقول هذا الرجل؟ ألا تحركون ساكنا؟ يا للعجب! هل لوثت الخيانة القلوب جميعا؟! هل هان فرعون على جميع أبنائه وأصدقائه؟ أيها الوزير خوميني قل ما جزاء من يعصي فرعون؟
فتقدم خوميني في إعياء ظاهر من الطبيب، وهمس في أذنه، فانحنى الرجل لمولاه وتقهقر إلى الوراء حتى غادر المخدع، ودنا خوميني من فراش مولاه وقال: هدئ روعك يا مولاي، فما يريد الرجل إلا الخير، أيريد مولاي أن أحضر له كأسا من الماء؟
وخرج الوزير من الحجرة قبل أن يؤذن له، وأعطاه الطبيب كاري كأسا ذهبية من الماء المذاب فيه دواء مسكن، فحمله الوزير إلى مولاه، وتقبله الملك من يد وزيره وشربه حتى الثمالة، وجاء أثره سريعا فهدأت حركات الملك العنيفة، وعاودت عينيه نظراتهما المألوفة، ورد إلى وجهه المحتقن لونه الطبيعي، ولكن بدا عليه هزال وخور بالغان.
وتنهد الملك تنهدا عميقا وقال: ويل للإنسان من الشيخوخة والضعف! ... إنهما يهزآن بأشد الجبابرة!
ونظر إلى الجمع الملتف بفراشه وقال: أيها السادة ... لقد كنت حاكما جبارا، أشهر في يمناي الفاصل بين الحياة والموت، وأنطق بالقوانين والشرائع، وألهم الطاعة والعبادة، ولم أغفل في حياتي لحظة عن توخي الخير والإصلاح، وأردت ألا ينتهي انتفاع العباد بي بانتهاء حياتي على الأرض؛ فكتبت رسالة مطولة في الطب والحكمة سيدوم الانتفاع بها ما دامت الأمراض لا ترحم الإنسان، وما دام الإنسان لا يرحم نفسه ... وامتد بي العمر كما ترون، وأرادت الآلهة أن تبتليني ببلاء شديد لحكمة أجهلها، واختارت ابني آلة لها وجردت جيوش الشر في قلبه، فانقلب عدوا لي وتربص بي في الظلام يريد اغتيالي، ولكن كتبت لي النجاة ودفع الابن التعس حياته ثمنا لبضع ساعات يمتدها عمري ...
فقال الجميع برجاء: أطال الله بقاء الملك.
فرفع الملك يده فساد سكوت وعاد يقول: أيها السادة لقد حمت النهاية، وقد دعوتكم لتسمعوا كلمتي الأخيرة، فهل أنتم مستعدون؟
فأشرق خوميني بالدمع وقال: مولاي ... لا تذكر الموت ... ستنكشف هذه الغمة وتعيش طويلا لمصر ولنا.
فابتسم فرعون وقال: لا تحزن أيها الصديق خوميني؛ فلو كان الموت شرا يدفع لخلد مينا على عرش مصر؛ ولذلك فخوفو لا يحزن للموت ولا يخشاه، وإن الموت لأهون من شرور كثيرة تشوه وجه الحياة، ولكن أريد أن أطمئن على تركتي العظيمة ...
Unknown page